حين يلتقي الوعي بالكتاب، تنكشف المرايا الخفية للعقل الإنساني، هناك بين رائحة الورق ونداء الحرف، تتجلى رحلة الفكر في أبهى صورها، رحلة تعيد الإنسان إلى ذاته، وتجعله يرى في النص انعكاسًا لروحه قبل أن يرى فيه فكرة الكاتب. معرض الكتاب ليس ساحة بيعٍ للكلمات، بل فضاء يختبر نبض المجتمع وحرارته الثقافية، ويكشف مقدار ما بلغناه من نضج فكري وانفتاح على المعنى، ويُعاد فيها تعريف الثقافة لا كترف، بل ضرورة وجودية تحفظ للإنسان وعيه ومعناه، هنا لا تعرض الكتب فقط، بل تعرض حالة المجتمع الثقافية، نبضه، وشغفه، وما يؤمن به من جمال ومعنى. إن معرض الرياض للكتاب ليس حدثاً سنوياً عابرًا، بل تجربة حضارية متجددة تكشف عن مدى التحول في علاقتنا بالمعرفة، إنه مختبر للوعي الجماعي، وفضاء يقاس به نضج الفكر، وتنوع الذائقة، واتساع الرؤية. فكل جناح من أجنحة المعرض يحكي قصة عن تطور الوعي السعودي والعربي، وعن انفتاح الإنسان على الآخر دون أن يفقد جذوره. إن معرض الكتاب يجسد مفهوم الريادة الثقافية، لا بما يقدمه من كتب فحسب، بل بما يخلقه من تفاعل حي بين الفكرة والقارئ، فالأجنحة التي تحمل شعارات دور النشر هي في جوهرها حوارات بين الأجيال، وحين نرصد وجوه الزائرين من الطفل الذي يتأمل غلافاً لقصص ملونة، إلى الشيخ الذي يبحث عن كتاب من ذاكرة التراث، ندرك أن الثقافة هنا لم تعد نخبوية، بل أصبحت مساحة حياة مشتركة. في كل ركن من المعرض، ثمة انبعاث، أصوات كتّاب جدد يجربون لغتهم الأولى، وآخرون يضعون خلاصة أعمارهم في مجلداتهم الأخيرة، إنها دورة الحياة في أجمل تجلياتها بين من بدأ الحلم ومن أكمله بالحرف، وفي الممرات الطويلة نشعر أن الذاكرة تسير أمامنا، تفتح لنا كتبها القديمة وتبتسم، هناك بين مراوح المداخن رأيت دون كيخوت على حماره – عفوًا، على ما كان يظنه حصانًا – يبحث عن طواحين جديدة تقاتل الفراغ. وعلى مقربة كان أبو العلاء المعري يرى في صخب الحياة سؤالاً أبديًا، فكتب رسالته الغفران ليصمت العالم ويبدأ الفكر بالكلام، وفي زاوية أخرى، مر الحلاج كوميض فكرة عابرة يهمس «مازال في العشق سؤال لم يُجب»، تولستوي يجلس قرب الجدار يدوّن عن معنى الحرب والسلام، ودوستويفسكي يطل بوجه سعودي يقرأ الليالي البيضاء كأنه يعيد الاكتشاف في لحظة صفاء نادرة حين لا يكون الحب خلاصًا ولا عذابًا بل نورًا، وكافكا يتوارى في الظلال، يكتب على ورقة بيضاء «القلق اصدق من الطمأنينة»، وبين رفُّ وآخر، تتنفس الكتب كأنها بشر تعرفنا تمشي فينا ملامحهم القديمة. كونديرا بخفته، ونجيب محفوظ بحاراته، والغزالي بدهشته، وعبده خال بعطر الجنوب في حرفه، كل هؤلاء مازالوا يعيشون بيننا -على هيئة كتاب مفتوح لا يُغلق. لكن وسط كل هذا الحنين يهمس سؤال: «من الذي سيخلّد ذكره هذا العام؟ أي كاتب من هؤلاء الشباب الذين يخطّون اليوم أولى رواياتهم سيجد له مقعدًا في ذاكرة الغد؟ وهنا تتجلى الحقيقية، معرض الكتاب ليس مكاناً للشراء والترف، بل اختبار حقيقي للزمن: من الذي سيبقى حين تُطفأ الأضواء وتُغلق الاجنحة؟ فبعض الكتب تُقرأ لتُنسى، وبعضها يُنسى ليبقى فينا، ولعل الخلود لا يصنع بالحبر وحده ، بل بصدق التجربة الإنسانية التي تضيء ما حولها. حين نغادر المعرض نحمل في أيدينا كتبًا، لكن في أرواحنا ضوءًا جديدًا، ضوء السؤال وضوء الشغف، وضوء الوطن الذي يكتب تاريخه الثقافي بثقة واعتزاز، فالكتاب الذي نشتريه اليوم قد يكون ذاكرتنا غدًا، والمعرض الذي نزوره الآن هو صورة وعينا كما نريد أن يكون، وهكذا يبقى معرض الرياض للكتاب مرآة أمة تقرأ لتبقى.