في ميدانِ الكارثة، حيث تنهارُ البنيةُ التحتية كأنها بيتٌ من ورق، تصبحُ النجاةُ لا تقلّ قسوةً عن الحرب نفسها، فالمسألة ليست أن يُرسَل الطعامُ والدواء فقط، بل أن يصلا سالمين في زمنٍ يتآمر فيه الانهيارُ على الحياة ذاتها. في مشهد غزة، حيث القصفُ دمّر الشوارعَ والمخابزَ والمستودعاتَ والمصانع، تقطّعت طرقُ التوزيع، وانفجرت الأنابيب، وانقطعت الكهرباء، وبقي السكانُ محاصَرين خلفَ أنقاضٍ لا تُسمع فيها إلا أنينُ الألم، ما يُرسَل إلى الداخل من مساعدات -حمولاتُ طعامٍ وصناديقُ أدويةٍ ومعدّاتٌ طبية- يواجه اختبارَه الأول عند عبوره من المعابر، والثاني في الطريق، والثالث عند محطة التوزيع، والرابع عند وصوله إلى يد المحتاج، كل خطوةٍ في هذه السلسلة تضع السلامة والجودة على المحك قبل أن تُنقذ الحياة. حين تُقطَع الجسور أو تُدمَّر الطرق، تُشلّ عمليةُ النقل، وتضطرب الشحناتُ داخل الحاويات، وتفقد توازنها مع كل ارتجاجٍ للطريق، فيتحول النقل إلى امتحانٍ جديدٍ للجودة. كل اهتزازٍ قد يُفسد دواءً، وكل دقيقةِ تأخيرٍ قد تقتل مريضًا ينتظر، كثيرٌ من الأدوية، خصوصًا تلك التي تحتاجُ إلى تبريدٍ كالمضادات الحيوية أو اللقاحات، تفقد فعاليتها إذا تُركت لساعاتٍ تحت حرارةٍ مرتفعة أو تعرّضت لهزّاتٍ عنيفة، والطعامُ المعلّب قد يفسدُ إذا تسرب الهواءُ إليه أو أصابته الرطوبة. ثم تأتي محطةُ التوزيع: مخازنُ مؤقتة أو خيامٌ تُقام فوق أرضٍ مكسورة، في ظروفٍ بدائية بلا تبريدٍ كافٍ، ولا حمايةٍ من الغبار والرطوبة، ولا حتى حُرّاسٍ يحمونها من النهب أو الفوضى، تُوزَّع المساعدات أحيانًا أمام الناس مباشرة، في طوابير تمتدّ لساعاتٍ تحت لهيب الشمس أو برد الليل. حين تُفتح حاويةُ غذاء أمامهم، يندفعُ الجوعى للحصول على أول وجبةٍ منذ أيام، ولن يسأل أحدٌ عن تاريخ الإنتاج، فالجوع لا يمنح رفاهيةَ الاختيار، وكم من المساعدات تُفرغ في الميدان مباشرةً دون مراحل فحصٍ أو مراقبةٍ صحية. أما من جهة الأدوية، فالمأساة أعمق، الأجهزة الطبية تحتاجُ كهرباء مستقرة، والضماداتُ تحتاجُ تخزينًا جافًا ونظيفًا، والأدويةُ تحتاجُ درجات حرارةٍ محددة، لكن حين تنقطع الكهرباء أو تُدمَّر مراكزُ الوقود والصيانة، قد تتحولُ تلك الأدوية من أملٍ إلى عبء. تقاريرُ الأونروا تشير إلى أن النظامَ الصحي في غزة يواجه "تحدياتٍ تشغيليةً هائلة" بسبب تدمير المرافق الصحية وانقطاع الموارد الحيوية. وكثيرٌ من الأطباء يتحدثون عن «دواءٍ يُعطى بالأمل، لا باليقين». ومع ذلك، يصرّون على المحاولة، لأن التوقف يعني موتًا مؤكّدًا. والجريمة الكبرى -إلى جانب الدمار- أن بعضَ المساعدات تُخضَع لابتزازٍ علنيٍّ أو خفيٍّ، يُصرّ بعضُ مَن يتحكمون بالمعابر على تأخير الشحنات، أو يربطون دخولَ الغذاء بشروطٍ سياسيةٍ أو تفاوضية، فتُصبح المساعداتُ رهينةَ قراراتٍ تفوق قسوتها الحربَ ذاتها. في الوقت نفسه، تتعرّضُ قوافلُ الإغاثة للنهب والاعتداء، في حادثةٍ بمعبر كرم شالوم، نُهبَت 98 من أصل 109 شاحنات مساعدات، رقمٌ يختصرُ انهيارَ الأمن وضعفَ الرقابة في منطقةٍ تنزفُ من كل جانب. الضغطُ على فرق الإغاثة هائل، الوقتُ يضيق، والوقودُ نادر، والطرقاتُ مغلقة أو ملوّثة بالألغام، والتنسيقُ مع الأطراف المتصارعة يُعرقل كل محاولةٍ للدخول. كل شحنةٍ من الغذاء أو الدواء تمرّ عبر متاهةٍ من الجمارك والأمن والجهات الصحية، وكل جهةٍ قد تفرض شرطًا أو تأخيرًا جديدًا. علاوةً على ذلك، فإن الإمدادات الإنسانية قد لا تكون كافية لاحتياجات الأفراد الأصحاء فكيف هو الحال بذوي الاحتياجات الصحية الخاصة من مصابين ومرضى. ورغم هذا الضغط الهائل لإيصال الأدوية والأغذية إلى المناطق المنكوبة، فإن الكميات لا تكفي، ما يصل إلى الداخل أقلّ بكثير ممّا يُعلَن أو يُخطَّط له، فكل شاحنةٍ تُفرغ حمولتها في مكانٍ ما، تترك وراءها عشرات المناطق بلا غذاءٍ ولا دواء. يُضطرّ الأطباء لتقسيم جرعات العلاج بين أكثر من مريض، وتُخفَّف تركيزات المحاليل لتكفي لأطول وقتٍ ممكن. أمّا الغذاء، فيُوزَّع بالحدّ الأدنى: رغيفٌ لكلّ عائلة، أو وجبةٌ تُقاس بالعدد لا بالكفاية. إنها أزمةُ وفرةٍ في النوايا، وندرةٍ في الإمكانيات، حيث يبقى السؤال الموجع معلّقًا: كيف تُقاس الإنسانية عندما لا تكفي المساعداتُ لتغطية الحاجة؟ لكن وراء هذه الفوضى، ينهض وجهٌ آخر من الإنسانية الخالصة: متطوّعون يدخلون الأزقة والأنفاق حاملين صناديقَ الطعام إلى منازل مهدّمة. صيادلةٌ يتحوّلون إلى خبراء تبريدٍ بدائي، يحمون الأدوية بأكياسِ ثلجٍ يدويٍّ أو شرائحَ مثلّجةٍ بسيطة. أطباء يعملون قصارى جهودهم لإنقاذ المرضى والمصابين، شبابٌ يركّبون بطارياتٍ شمسية لتشغيل ثلاجة دواء في خيمةٍ طبيةٍ فوق الركام، كلّهم يقاومون الفناء، لا بالعتاد، بل بالضمير. هذا النضالُ من أجل الجودة والسلامة في قلب الفوضى يذكّرنا أن الإغاثةَ ليست شحناتٍ وأطنانًا فحسب، بل معركةٌ ضد التلوث، وضد الفساد، وضد الزمن، وضد البُعد المنطقي بين المساعدات والمنكوبين. حين تصل رشفةُ ماءٍ نظيفة، أو قرصُ دواءٍ فعّال، أو علبةُ طعامٍ لا يجرّب فيها الإنسانُ الموت، فإن ذلك انتصارٌ في حربٍ لا تُرى. في نهاية المطاف، ليست الحرب وحدها من تختبر صلابةَ الشعوب، بل صراع البقاء الذي يليها، وما يُختبَر في غزة اليوم هو كرامةُ الإنسان في وجه المستحيل. فحين تصل لقمةُ خبزٍ سليمة، أو جرعةُ دواءٍ فعّالة، يكون ذلك انتصارًا للحياة نفسها، انتصارًا صغيرًا في معركةٍ كبرى تذكّر العالم أن الإنسانية لا تُقاس بما نُرسل، بل بما نُنقِذ. و لا يمكن أن نغفل دور هؤلاء المعاملين والمنقذين في المراكز والمنظمات الإنسانية، فهم أبطالُ ساحةٍ يتعدد فيها الخصوم: الزمن، والبنية التحتية، والتعقيدات السياسية والعسكرية والأمنية.