خالد اليوسف.. الأديب الذي جعل من الورق وطنًا، ومن الحبر ترنيمة تقيمها الذاكرة كل صباح. هو ليس كاتبًا عابرًا في طريق الأدب، بل نهرٌ هادئ الجريان، يسقي جذور الثقافة السعودية منذ عقودٍ دون أن يطلب تصفيقًا. كان ولا يزال يسكن اللغة كما يسكن الضوء المساء؛ خافتًا، نبيلاً، لا يلمع إلا ليُظهر ما حوله من جمال. ولد في الرياض، لكنه وُلد أكثر من مرة في كل نصٍّ كتبه، وفي كل وثيقةٍ أنقذها من غبار النسيان. عرف باكرًا أن الأدب ليس ما نكتبه فقط، بل ما نحرسه من الضياع. لذلك، انحنى على النصوص كأبٍ عطوف، يجمع أبناءه المتناثرين في دفاتر التاريخ، يصنع من كل كتابٍ أرشيفًا للحياة، ومن كل سطرٍ شاهدةً على زمنٍ مرّ من هنا ولم يمت. كتب القصة كما تُكتب صلاة الغائب، يسكب الحنين في جملةٍ، ويغسل الوجع بعبارةٍ تشبه المطر. في مقاطع من حديث البنفسج كانت الحروف تتضوع كالعطر في مساءٍ بعيد، وفي أزمة الحلم الزجاجي رأينا الشفافية المكسورة التي تُشبه القلوب حين تُصاب بالحقيقة. أما وديان الإبريزي وسيرة حمى فهما كائنات لغوية من لحم الذاكرة، تمتزج فيهما الواقعية بالخيال، والموت بالحياة، والفكر بالوجدان، كأن الكاتب يكتب ليشفي العالم لا ليصفه. لكنه لم يكتفِ بأن يكون روائيًا وقصاصًا؛ كان شاهدًا ومؤرّخًا وصوتًا يحفظ للأدب السعودي سيرته الأولى. لقد أدرك أن الشعوب التي لا توثّق إبداعها تُعيد أخطاءها في كل جيل. فمدّ يده إلى المكتبات، يقرأ ما كتب الآخرون، ثم يعيد ترتيب الذاكرة كمن يعيد للسماء نجومها بعد عاصفة. في معجم الإبداع الأدبي في المملكة العربية السعودية لم يكتب أسماء فقط، بل كتب حياةً كاملة. في أنطولوجيا القصة القصيرة جمع النبضات التي كانت متفرقةً في صدور المبدعين، وفي دراساته الببليوجرافية صنع جسورًا بين النصوص لتتعانق كما تتعانق الأرواح المتعبة بعد فراقٍ طويل. خالد اليوسف لا يتحدث كثيرًا عن نفسه، لكنه حاضرٌ في كل ما كُتب وما سيُكتب. هو ذاكرة الأدب حين يُصاب بالنسيان، وبوصلة الباحثين حين يضلّون طريق الحقيقة. في حواراته كان يواجه المشهد الثقافي بصدقٍ نادر، ينتقد بلغة العارف لا الغاضب، ويقول إنّ بعض المثقفين يعيشون فوق النص لا فيه، وإنّ الإبداع لا يكتمل إلا حين يكون المرء صادقًا مع جرحه قبل جمهوره. هو رجلٌ يشبه الورق النبيل: يحتمل الحبر، ويحتمل النار، لكنه لا يحترق إلا ليضيء. لا يبحث عن الجوائز بقدر ما يبحث عن الدليل، لا يسعى إلى الخلود بقدر ما يسعى إلى إنقاذ المعنى من الموت. حين تتأمله، تدرك أن الأدب في جوهره ليس كتابة بل إنصات، وأن خالد اليوسف كتبنا جميعًا من حيث لا يدري، حين وثّق أرواحنا بين السطور. إن الحديث عنه يشبه السير في مكتبةٍ من الضوء، كل رفٍّ فيها يحمل أثره، وكل كتابٍ ينحني ليمرّ ظله عليه هو الأديب الذي لم يحتج قصيدة، لأنّ أعماله كلها قصائد طويلة في الوفاء. وإذا كان بعض الكتّاب يُشيّدون مجدهم بالحبر، فإن خالد اليوسف شادَ مجده بالحُب، وجعل من التوثيق فناً ومن الدقة جمالًا، ومن الحرف ذاكرةً لا تنام. خالد اليوسف ليس مجرد اسمٍ في سجلّ الثقافة، بل سجلّها نفسه، هو الحارس الذي ظلّ واقفًا عند باب الذاكرة، يمنع النسيان من الدخول، ويهمس للتاريخ: اكتب بحذرٍ، فكل سطرٍ هنا قلبٌ كان يخفق ذات يوم. خالد أحمد اليوسف