في عالم الكبار المضطرب مع تراكم التحديات الداخليّة والخارجيّة، تبرز فرضيّة تحليليّة مثيرة للقلق تقول: إن القُوَى الغربيّة الكبرى، وتحديدًا الولاياتالمتحدة وأوروبا، قد تجد في إشعال صراع عالمي واسع النطاق مخرجًا استراتيجيًا من تحدياتها الداخليّة المستفحلة. وهذه الفرضيّة لا تنبع من فراغ أو من نظريات مؤامرة، بل تستند إلى قراءة تحليليّة للتاريخ القريب، حيث كانت الحروب الكبرى مخرجًا لإعادة الهيكلة الجذريّة للاقتصادات، وتعديل التوازنات الديمغرافيّة، وتوحيد الجبهات السياسيّة المنقسمة، وبناء التحالفات الجديدة. ويظهر في عمق هذا الفكر التحليلي مفهوم "اقتصاد الحرب الدائم" (PermanentWar Economy)، الذي يرصد ظاهرة تحوّل الإنفاق العسكري من ضرورة مؤقتة في زمن الحرب إلى ركيزة دائمة للاقتصاد الرأسمالي. ووفقًا لهذا المنظور، تُصبح الصناعات العسكريّة الأداة الاستراتيجيّة للحفاظ على تراكم رأس المال، وتحفيز النمو، وتوحيد الشعوب. وهذا التصوّر يمكن استيعابه بربط الدروس التاريخيّة بالواقع المعاصر، وطرح تساؤلات حول ما إذا كانت المدخلات ذاتها تتفاعل اليوم، وتدفع العالم نحو مواجهة كبرى جديدة. وتقدم الحرب العالميّة (الغربيّة) الأولى (1914-1918) شواهد على ذلك، خاصة بالنسبة للولايات المتحدة التي تحوّلت حينها من قوة اقتصاديّة ناشئة إلى أكبر اقتصاد عالمي. ففي عام 1914، كان الاقتصاد الأميركي يعاني من ركود واضح، لكن مع بداية الحرب وفي أثنائها، شهد الأميركيون ازدهارًا اقتصاديًا هائلًا وانخفض معدل البطالة من 7.9% في عام 1914 إلى 1.4% بحلول عام 1918. وقد تحقق ذلك بفضل الإنتاج الهائل للأسلحة والمواد الخام للحلفاء. وفي أوروبا، على الرغم من الدمار الهائل، مهدت الحرب لإعادة هيكلة جذريّة للأنظمة الاقتصاديّة والسياسيّة. ديمغرافيًا، أثرت الحرب بشكل كبير على التوازن السكاني في أوروبا، ولكنها سرعان ما تعافت وشهدت طفرة في المواليد في عشرينيات القرن الماضي مع الانتعاش الاقتصادي. ومن ثمارها السياسيّة أنّها عزّزت الوحدة الوطنيّة الأميركيّة ضد"العدو الألماني". كما كانت الحرب أشبه بزلزال أعاد رسم خريطة العالم إذ أدت إلى انهيار أربع إمبراطوريات كبرى (الألمانيّة، النمساويّة-المجريّة، الروسيّة، والعثمانيّة). وإذا كانت الحرب العالميّة الأولى قد أرست أسس الهيمنة الأميركيّة، فإن الحرب العالميّة (الغربيّة) الثانية (1939-1945) رسّختها بشكل نهائي، وقدّمت دليلًا أكثر وضوحًا على فرضيّة "الحرب كحل" للأزمات، خاصة في الحالة الأميركيّة. فقبل الحرب، كانت الولاياتالمتحدة تعاني من الكساد الكبير، (نسبة البطالة 25% عام 1933). لكن الحرب ظهرت علاجًا فعالًا للكساد في أميركا، فمن خلال الإنفاق الحكومي الهائل أعاد الاقتصاد إلى التوظيف الكامل بحلول عام 1941. وفي أوروبا، التي كانت مشلولة بأزمات اقتصاديّة متعددة عام 1932، ورغم دمار الحرب، ساهمت خُطَّة مارشال الأميركيّة (1948-1951) التي قدمت 13.3 مليار دولار على شكل منح وقروض إلى 17 دولة أوروبيّة (ما يعادل 150 مليار دولار في 2025) في إعادة الإعمار وتحقيق نمو اقتصادي سريع. وبحلول أوائل الخمسينيات، تجاوزت معظم الدول الأوروبيّة مستويات إنتاجها لما قبل الحرب، مع معدلات نمو سنويّة غير مسبوقة. ولم تكن الخُطَّة مجرد عمل إنساني؛ لقد كانت استثمارًا استراتيجيًا ذكيًا في إعادة بناء الأسواق الأوروبيّة لاستيعاب البضائع الأميركيّة. من الناحية الديمغرافيّة، ظهرت بعد الحرب الثانية "طفرة المواليد" (Baby Boom) من 1946 إلى 1964، حيث ارتفع معدل الخصوبة في أميركا إلى 3.8 طفل لكل امرأة في ذروته عام 1957، وأضافت هذه الطفرة قرابة 80 مليون نسمة إلى السكان الأميركيين بحلول عام 1965. وعلى المستوى السياسي، أنهت الحرب الانقسامات الداخليّة في العديد من دول أوروبا، وعززت التكامل الأوروبي، وحولت الولاياتالمتحدة إلى زعيمة "العالم الحر" وهي تمتلك أقوى اقتصاد وأكبر جيش، وأصبحت مهندسة النظام العالمي الجديد. اليوم، يواجه الغرب أزمات من كل اتجاه فمن هنا، تباطؤ اقتصادي ومنافسون شرسون، ومن هناك، ديون متراكمة بلا حلول، وتضخم يأكل الأخضر واليابس، مع شيخوخة ديمغرافيّة واستقطاب سياسي شعبوي. فهل ينشط شياطين السياسة والاقتصاد لتصعيد الفرضيّة التي ترى أن حربًا عالميّة ثالثة قد تكون "منقذًا" من هذه الأزمات؟ * قال ومضى: لا أعرف الحقيقة ولا جوابها، ولكن لا أملّ أطرق بابها..