حين تتدخل القيادة في لحظة فارقة، فإنها لا تضبط الأسعار فحسب، بل تعيد رسم ملامح الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي معًا، توجيه ولي العهد -حفظه الله- بضبط سوق الإيجارات السكنية جاء كخطوة استراتيجية لكبح التضخم الذي باتت تكاليف السكن أبرز محرّكاته، ولحماية الأسر من ضغوط المعيشة المتزايدة، هذا القرار لا يُقرأ بوصفه معالجة آنية لمشكلة الأسعار فحسب، بل بوصفه تأسيسًا لمنظومة أكثر عدالة واستدامة، لقد كان سمو ولي العهد واضحاً منذ انطلاقة الرؤية في تأكيده أن السوق العقارية تحتاج إلى إعادة توازن، ليس فقط لضمان تملك المواطنين لمساكن مناسبة، بل أيضاً للحد من الضغوط التضخمية الناتجة عن الإيجارات، من هنا جاءت برامج الإسكان، وتنظيم السوق العقارية، وتفعيل مبادرات التمويل الميسر، كلها كجزء من حزمة سياسات تستهدف معالجة الجذور لا الأعراض وتضمن أن يبقى المسكن متاحًا، وأن يبقى الاقتصاد السعودي في مساره المتوازن الذي يقوده نحو مستقبل أكثر ازدهارًا. في الجانب الآخر أعلنت الهيئة العامة للإحصاء أرقام التضخم عن شهر أغسطس من عام 2025 والذي يحمل في طياته أكثر من مجرد رقم جديد يضاف إلى سلسلة البيانات الاقتصادية، لكنه يكشف عن تحولات أعمق حين ننظر إلى تفاصيله، فالأسعار لم تتحرك جميعها بالاتجاه نفسه، بل جاءت الضغوط من بنود محددة يتصدرها السكن والإيجارات، في حين شهدت بعض الأقسام الأخرى تراجعاً يشي بإعادة تشكيل أولويات الإنفاق لدى الأسر السعودية، لكن الجزء الأكثر وضوحاً في المشهد كان الارتفاع الكبير في أسعار السكن والمياه والكهرباء والغاز، التي صعدت بنسبة 5.8% على أساس سنوي، ويتضح من الأرقام أن المحرك الأبرز داخل هذا البند كان الإيجارات الفعلية للسكن، التي ارتفعت بنسبة 7.6%، وهو ما جعلها العامل الأول في دفع التضخم، وبالنظر إلى الوزن النسبي للسكن في سلة المستهلك، فإن أي تغيير فيه ينعكس مباشرة وبقوة على المؤشر العام، هذا يعكس التحدي المزمن المرتبط بالإيجارات في المملكة، والذي لم يكن بمعزل عن النقاشات الاقتصادية منذ سنوات، وفي سياق التحديثات الأخيرة لمؤشر أسعار المستهلك، تم توسيع البنود الرئيسة للتضخم من 12 بنداً إلى 13 بنداً بعد إضافة التأمين والخدمات المالية، ما يعكس أهمية هذا القطاع المتزايدة في الإنفاق الاستهلاكي وتأثيره على الاستقرار المالي للأسر، ويأتي هذا التحديث بالتوازي مع المنهجية الجديدة للهيئة التي تعتمد على سنة أساس 2023، وتضم سلة محدثة ب582 سلعة وخدمة، مع أوزان محددة وفق مسح دخل وإنفاق الأسرة لعام 2023، وتغطية جغرافية شاملة لكافة مناطق المملكة، إضافة إلى مصادر بيانات أكثر تنوعاً وحداثة، في المقابل برزت بعض الأقسام كعوامل موازنة للتضخم، فقد تراجعت أسعار الأثاث والأجهزة المنزلية بنسبة 0.3% نتيجة انخفاض المفروشات والسجاد بنسبة 3.3%. كما انخفضت أسعار معدات المعلومات والاتصالات بنسبة 6.7%، ما انعكس على تراجع القسم بنسبة 0.4%. هذه التراجعات وإن لم تعوض تماماً عن ارتفاع الإيجارات، إلا أنها ساهمت في إبقاء معدل التضخم في حدود آمنة نسبياً، وعلى الأساس الشهري، لم يتجاوز ارتفاع مؤشر أسعار المستهلك 0.1% مقارنة بشهر يوليو، ما يشير إلى نوع من الاستقرار قصير الأجل، المنهجية الجديدة تجعل من مؤشر التضخم أداة أكثر دقة وموثوقية، وتساعد الحكومة على تصميم سياسات فعالة، وتوفر بيانات شفافة للمستثمرين، وتمكن الأسر من فهم كيفية تغيّر تكاليف المعيشة واتخاذ قرارات مالية أفضل، هذا التغيير المنهجي لا يمكن فصله عن السياق الأكبر لرؤية المملكة 2030 فالاستقرار الاقتصادي وتحسين جودة الحياة هما من أبرز مرتكزات الرؤية، والتضخم يرتبط بهما بشكل مباشر. سجل الرقم القياسي لأسعار المستهلك في شهر أغسطس ارتفاعاً سنوياً بنسبة 2.3% مقارنة بالشهر نفسه من العام الماضي، وهو معدل متزن نسبياً، قراءة التضخم ليست مجرد متابعة لأرقام شهرية، بل نافذة على كيفية إدارة الاقتصاد السعودي لعلاقته المعقدة مع الأسعار، فالأرقام تظهر أن الضغوط موجودة، لكنها تحت السيطرة، ولذلك جاءت المنهجية الجديدة للهيئة العامة للإحصاء، لتمنح صناع القرار بيانات أدق لاتخاذ قرارات أكثر فاعلية، ورؤية المملكة 2030 توفر الإطار الأوسع لإعادة صياغة السوق وتحقيق التوازن بين النمو الاقتصادي والاستقرار الاجتماعي، وإذا كان التضخم في السعودية اليوم يعكس بالأساس ارتفاع الإيجارات، فإن معالجة هذا التحدي تمر عبر مواصلة ضخ المشاريع السكنية وتطوير التشريعات التي تكفل التوازن بين المستأجر والمؤجر، إلى جانب تحسين آليات تمويل الإسكان، بهذا المعنى يمكن القول، إن التضخم لم يعد مجرد رقم اقتصادي جامد، بل أصبح مؤشراً يعكس مدى نجاح المملكة في تنفيذ إصلاحاتها وتوجيه دفتها نحو المستقبل، ومع استمرار تطوير السياسات العقارية والمالية، وتعزيز دور الإحصاءات الدقيقة، فإن المملكة تضع نفسها على مسار يوازن بين الطموح الاقتصادي والقدرة الشرائية للمواطن، وهو ما يجعل قصة التضخم في السعودية اليوم جزءاً من قصة أوسع عن التحول الوطني.