من المقررات العقديّة التي قد تقدّم بين يدي المناهج الفكريّة المتعددة لدى المسلمين: «لا يوجد في الدنيا شرّ محض، والأصل في الإنسان الكرامة والخير، والاستفصال عن كل أمر حتى يوزن بحسبه، لا أن يرد جملة أو يقبل جملة». والتقديم بين يدي مسألة «الاستعمار» أو «الاحتلال الغربيّ للعالم»؛ يتطلّب من المفكّر وعموم المهتمين المسلمين أن يزنوا الأمور بميزان العدل لا الشطط، لا لمجرّد التخلّص من الظلم، وإنما لمقاربة الصواب والرشاد، وانعكاس هذا على سلوك الإنسان في نفسه وحياته. وقد تضاربت الرؤى تجاه مخرجات ومنتجات «الاحتلال الغربي للعالم» أو «الاستعمار»، ومن ذلك ما صار حقلاً للاشتغال البحثي في العالم، خصوصاً الدول التي خرجت من نير الاستعمار، وهو «الاستعمار المعرفيّ»، بوصفه الأشد ضرراً على الأمم والحضارات لتعلّقه بعالم المعاني، والظلم والاحتلال في عالم المعاني يحتاج لحصافة ووعي دائمين، لتأسس الهويّة عليه، وهذا مما يغيب عن جلّ الناس، لحجاب المشغلات اليوميّة عن الالتفات للمؤسسات والمسلمات المعنوية المحرّكة لهم. ظهرت مسألة «الاستعمار المعرفي» في حقل الدراسات «ما بعد الاستعمارية- ما بعد الكولونيالية»، وذلك للتخلّص من هذا الاستعمار المعرفي وفق طرق منهجيّة، وهذا الطريق المنهجي ذاته قد خرج من ميدان هيمنة أكاديمية غربية على العالم، وفيها أصول النظر للمسائل المعرفيّة بطرائق أقرب للعمليّة والتنظيمية التجريبية منها للنظر المعنويّ (المقاصديّ)، وهذا أنتج مشكلة هي: النظر للمعرفة التي بيد المُستعمر، وأنّ المقاومة وإرساء العدل والسلم في تصفية هذه المعرفة لأنّها من المستعمر، في تضخيم للمسألة يغيّب حقيقة المرتبة التي تنزلها أو السطح الذي تقف عليه، وتغيب الأسئلة الدقيقة العميقة في لجّة المقاومة، فلا يتساءل المقاوم للاستعمار المعرفي: هل المعرفة التي بيد المستعمر شرّ كلها؟ وهل المعرفة التي بيد المستعمر من صنعه أصالة؟ أم هل المعرفة التي بيد المستعمر مختلسة من غيره، فلحقها العيب لا لذاتها وإنما لنسبتها للمستعمر؛ فرميت رغم محاسنها التي قد تنفع البشريّة؟... وغيرها من الأسئلة الباحثة في ذات المعرفة لا في استعمالها المفسد ومُستعملها. لقد كرّس عدد من دراسات «ما بعد الاستعمار» و»دراسات التابع» هذه النظرة التي لا تميّز بين «المعرفة» و»مستعمل المعرفة»، وقد قوّى هذا التكريس رؤية ميشيل فوكو لعلاقة السلطة بالمعرفة، التي تقف على تخوم المعرفة، وتطرح أسئلة: من أين أتت؟ ولماذا هي دون غيرها؟ وكيف تعمل في تشكيل الخطابات والممارسات الخطابية وغير الخطابيّة؟ في حقل تاريخي - اجتماعي - سياسيّ، غير ناظر في قيمة الحقيقة والصواب، وما يحمد وما يذمّ. ويردّ «دان وود» في كتابه النفيس «نقض الاستعمار المعرفيّ» هذا الإخلال لثنائية «مُستَعْمِر ومُسْتَعْمَر» التي سيطرت على هذا النوع من الدراسات؛ لأن النظر ليس إلى المعرفة ذاتها، وفحصها، وتخليصها من الاستعمال المسيء لها، ولا حتى النظر إلى الشعوب قبل الاستعمار، وكيف استعمل الاستعمار آليات التفريق، فرفع فئات كانت مهمّشة فصارت لها سلطة وجبروت وظلم، وحطّ من فئات كانت مستبدة أو دون ذلك، واستبيحت حياتها وكل ما تعلق بها. فمقاومة الاستعمار لإحلال العدل والسلام، لاقتصارها على هذه الثنائية؛ قد ترسّخ من طرق أخرى الظلمَ والتهميشَ والطمس المعرفي لفئات أخرى تسلّطت عليها فئات من «المستَعْمَرين». فضلاً عن التسطيح التاريخي لرؤية العالم قبل الاستعمار وبعد الاستعمار، وتشريع التاريخ قبله، وإلقاء مسحة من الصفاء والخيريّة عليه، وتضييع حقوق شعوب كثيرة عانت من الويلات، لكن لأن الويلات ليست «الاستعمار الغربي» فلا يثبت حقّها في المظلومية، وانتصار التاريخ لها. إنّ ما طرحه «دان وود»، وإن كان في النظر لاتجاهات الدراسات المناهضة للاستعمار؛ يحثّ على النظر الفكريّ المتريّث، الذي ينظر بميزان تقويم لا شطط فيه ولا بخس، بل العدل في الحكم على كل المعاني والمسالك، ولو جاءت من أشدّ الناس عداوة، وفي هذا لفتة لاستعادة المقدمات العقدية المؤسسة للتفكير الفلسفي والبحثي الرشيد.