التوقيعاتُ فنٌّ نثري كتابي، عماده الإيجاز، والدلالة، والرمز، والإيحاء. وهي في أصلها اللغوي مأخوذة من إلحاق الشيء بالشيء، قال ابن منظور في (لسان العرب): «التوقيع في الكتاب إلحاق شيء فيه بعد الفراغ منه»، وقد استوى التوقيع شكلاً أدبيّاً جميلاً في العصر الأموي وما بعده، وإن عُرِف قبلُ، حيث ارتبط بفنّ الرسائل، والتعليق عليها، وأظن أن ملامحه وإرهاصاته كانت حاضرة أيضاً في عهود قديمة جداً، وذلك في النقوش القديمة التي قد يُلمس في بعضها أثراً توقيعيًّا. وارتبط التوقيع في أكثر نماذجه بفن الرسائل، كما اقترن منذ مطلع العصور الإسلامية بالمجال السياسي، وما يتبعه من عمل إداري أحياناً، وتحديداً فيما كان يكتبه الخليفة، أو السلطان، أو الأمير، أو الوزير، على الرسائل والجوابات، فيبيّن من خلال ذلك أمره، أو نهيه، أو رأيه في موضوع ما، بلغة أدبية بليغة موجزة، وقد يقتبس في التوقيع آية من القرآن الكريم، أو الحديث النبوي الشريف، أو يضمّنه شيئاً من الشعر، أو الحكم والأمثال؛ فمن هنا ازدهر هذا الفن في عصور تطور الكتابة الفنية في العصر الأموي، والعباسي، واتسم بالإيجاز البلاغي، ودقة الصياغة، ومتانة التركيب، وقوة المعنى، ونفاذ التأثير. ومن أوائل التوقيعات وأشهرها ما وقّع به الخليفة الراشد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - عندما كتب إليه الصحابي الجليل سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - يستأذنه في بناءٍ، فكتب: «ابنِ ما يكنك من الهواجر، وأذى المطر». ولما بايع الناس يزيد بن الوليد، وأتاه الخبر بتردّد مروان بن محمد، كان مما كتب إليه: «بلغني أنك تقدّم رجلاً، وتؤخّر أخرى، فإذا أتاك كتابي هذا، فاعتمد على أيهما شئتَ. والسلام»، وقد قال الجاحظ معلّقاً على هذا التوقيع: «وها هنا مذاهب تدل على أصالة الرأي، ومذاهب تدل على تمام النفس، وعلى الصلاح والكمال، لا أرى كثيرا من الناس يقفون عليها». ووقّع هارون الرشيد إلى صاحب خراسان: «داوٍ جرحك لا يتسع»، ووقّع وزيره يحيى بن جعفر إلى أحد عمّاله: «قد كَثُر شاكوك، وقَلَّ شاكروك، فإما اعتدلت، وإما اعتزلت». ومع جمال التوقيعات، وما حوته من بلاغة الإيجاز، وقوة التعبير، وروعة التصوير، وشدة التأثير، ولطيف الإشارة، ومع أنها اتسعت قليلاً فيما بعد مع الأمراء، والوزراء، والكتّاب، والشعراء، غير أنه خفت وهجها بعد العصر العباسي، وباتت قليلة الحضور، ولا سيما في العصور المتأخرة، وكادت أن تنعدم في العصر الحديث، غير أننا وجدنا بعض ملامحها في كثير من برقيات الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود – رحمه الله – حيث كانت أقرب إلى التوقيع في مفهومه: السلطاني، والأدبي، والبلاغي، فمن ذلك مثلاً برقية بعثها إلى أحد عمّاله تحفيزاً له، وقد طعن في السن: «سبحان من يحيي العظام وهي رميم»، وقوله ضمن رسالة عفو عن أحد خصومه: «إنه دمدوم وجرف مهدوم»، وفي رسائله وبرقياته – رحمه الله – ملامح كثيرة من أدب التوقيعات تستحق أن يفرد لها باباً. ولم أجد بعد ذلك في عصرنا هذا من اهتم بالإبداع التوقيعي، إلا ما كان من نماذج قليلة جداً نذكر منها مثلاً: كتاب (توقيعات) للكاتب والشاعر السعودي عبد الله محمد باشراحيل، حيث حوى عباراتٍ أدبيةً قصيرةً، ذات طابع بلاغي جميل، وإن كانت أقرب إلى الخواطر، والحكم منها إلى التوقيع؛ نظراً لافتقارها إلى بعض عناصر التوقيع المعروفة، ولكنها تكشف عن محاولة جريئة في زمنٍ نضبت فيه التوقيعات.