تحتل القضية الفلسطينية مكانة مركزية في السياسة الخارجية للمملكة العربية السعودية منذ عقود طويلة، وهي قضية تشكل بعداً استراتيجياً وإنسانياً ودينياً في وجدان المملكة والشعب السعودي. هذه العلاقة بين السعودية وفلسطين لم تَقتصر على المواقف الخطابية أو التضامن الرمزي، بل امتدت إلى مبادرات سياسية ودبلوماسية ملموسة، ودعم مالي وإنساني، وجهود وساطة بين الفاعلين الإقليميين والدوليين. في هذا التقرير ، نستعرض بصورة متأنية مسارات دعم المملكة للقضية الفلسطينية سياسياً ودبلوماسياً، ونربط هذا الدعم بمسألة الاعتراف بدولة فلسطين والمبادرات السعودية التي حاولت ترجمة الدعم السياسي إلى مواقف دولية عملية تحقق طموحات الفلسطينيين في دولة مستقلة وعاصمتها القدسالشرقية. تاريخ من التضامن والدعم منذ لحظة إعلان منظمة التحرير الفلسطينية قيام دولة فلسطين في 15 نوفمبر 1988، تبلور موقف عربي موحّد إلى حد كبير لدعم مطالب الشعب الفلسطيني. المملكة العربية السعودية كانت من بين الدول التي أعلنت اعترافها بدولة فلسطين في نوفمبر 1988، وهو موقف شكل أساساً لسياسة خارجية ثابتة متكاملة تتبناها الرياض تجاه القضية. الاعتراف في سياق عام 1988 جاء بعد عقود من الدعم السياسي والمالي والدبلوماسي للقضية، لكنه كان أيضاً إشارة واضحة من المملكة إلى أنها ترى في حل الدولتين المخرج القانوني والسياسي الوحيد لتحقيق العدالة والاستقرار. مبادرة الملك فهد قبل مبادرة السلام العربية الشهيرة عام 2002، كان للمملكة دور بارز من خلال "مبادرة الملك فهد للسلام" التي طرحت عام 1981. المبادرة تضمنت ثمانية مبادئ أساسية، منها انسحاب إسرائيل من جميع الأراضي العربية المحتلة عام 1967، بما في ذلك القدس، وإزالة المستوطنات، وضمان حرية العبادة للأديان السماوية في الأماكن المقدسة، واعتراف بحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره. مبادرة الملك فهد، والتي تحولت لاحقاً إلى «مشروع سلام عربي» بعد تبنيها في قمة فاس عام 1982، شكلت اللبنة الأولى التي وضعت المملكة على رأس الجهود العربية لإيجاد حل سياسي شامل. هذه المبادرة أظهرت أن المملكة لا ترى في الصراع مجرد نزاع إقليمي، بل قضية عالمية تستوجب حلاً عادلاً يضمن إقامة دولة فلسطينية. المملكة ومؤتمر أوسلو منذ انطلاق مسيرة السلام في الشرق الأوسط مطلع التسعينيات، شكل مؤتمر أوسلو محطة فارقة في تاريخ القضية الفلسطينية، حيث فتح المجال أمام مسار سياسي جديد، اعترف لأول مرة بالحقوق الوطنية الفلسطينية على طاولة المفاوضات الدولية. المملكة العربية السعودية، التي حملت على عاتقها دعم فلسطين منذ عقود، حضرت هذا المسار بروح المسؤولية العربية والإسلامية، مؤكدة أن أي تسوية عادلة يجب أن ترتكز على حق الفلسطينيين في إقامة دولتهم المستقلة ولفد ساهمت المملكة دبلوماسياً وسياسياً في إعطاء المفاوضات زخماً إقليمياً، ودعمت الجهود الفلسطينية في التفاوض مع الجانب الإسرائيلي برعاية دولية. اتفاق أوسلو الذي وُقّع في واشنطن عام 1993 بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل، كان نتيجة لمفاوضات سرية جرت في العاصمة النرويجية. هذا الاتفاق شكل أول اعتراف متبادل بين الطرفين، وفتح الباب أمام إنشاء السلطة الوطنية الفلسطينية كخطوة على طريق الدولة. المملكة العربية السعودية نظرت إلى الاتفاق على أنه فرصة لبناء مسار سياسي جديد قد يفضي في النهاية إلى إقامة الدولة الفلسطينية، مع تأكيدها أن نجاح أوسلو يجب أن يقترن بجدول زمني واضح لإنهاء الاحتلال وإقامة دولة فلسطينية كاملة السيادة. في أعقاب توقيع الاتفاق، كثفت المملكة تحركاتها الدبلوماسية على مستوى الأممالمتحدة والمنظمات الدولية لدعم الموقف الفلسطيني. و سعت إلى تأمين شبكة أمان عربية-إسلامية تحمي القيادة الفلسطينية من أي ضغوط قد تنتقص من الحقوق الأساسية. كما شجعت دولاً أوروبية وآسيوية على النظر إلى أوسلو كخطوة أولية نحو الاعتراف بدولة فلسطين، وليس كحل نهائي. وبهذا المعنى، كانت السعودية أحد أبرز الأصوات التي أبقت فكرة الدولة الفلسطينية حية على جدول أعمال المجتمع الدولي. مبادرة الملك عبد الله لا يمكن الحديث عن دور الرياض السياسي في الملف الفلسطيني دون التوقف عند مبادرة السلام العربية التي طرحها الملك عبد الله بن عبد العزيز رحمه الله عام 2002، والتي اعتمدها القادة العرب في قمة بيروت. هذه المبادرة، المعروفة بمبادرة السلام العربية، عرضت طوق سلام شامل يقوم على مبادلة الاعتراف العربي بإسرائيل مقابل انسحاب إسرائيل من الأراضي المحتلة عام 1967، وإقامة دولة فلسطينية مستقلة بعاصمتها القدسالشرقية، وحل عادل لقضية اللاجئين على أساس قرارات الأممالمتحدة. الميزة الاستراتيجية للمبادرة كانت في تحويل ملف الاعتراف والتهدئة مع إسرائيل من قضية ثنائية إلى صفقة إقليمية شاملة: "سلام مقابل سلام"، وهو تحول في منطق العلاقات الذي وضع الطريق أمام احتمال قبول دول عربية بالتطبيع في حال وجود تسوية عادلة للفلسطينيين. رغم أن المبادرة لم تُترجم بالكامل على أرض الواقع إلى اتفاق شامل، إلا أنها بقيت مرجعاً سياسياً مهماً استخدمته المملكة العربية السعودية كأساس للمطالبات الدبلوماسية نحو تحقيق الدولة الفلسطينية المستقلة. مؤتمر حل الدولتين ودور المملكة المحوري من أبرز المحطات السياسية التي برز فيها الدور السعودي الدبلوماسي مؤتمر حل الدولتين الذي انعقد تحت مظلة الأممالمتحدة، بمشاركة دولية واسعة لمناقشة سبل إنهاء الصراع الفلسطيني الإسرائيلي على أساس حل الدولتين. المملكة لعبت في هذا المؤتمر دوراً محورياً في الدفع نحو إجماع دولي يعيد الاعتراف بخيار الدولتين باعتباره السبيل الوحيد لتحقيق الأمن والاستقرار. في مداخلاتها الرسمية ومشاوراتها الثنائية على هامش المؤتمر، أكدت المملكة أن إقامة دولة فلسطينية مستقلة على حدود عام 1967 وعاصمتها القدسالشرقية هو الأساس لأي تسوية عادلة. كما قامت المملكة، بدور فاعل في حشد الدعم من الدول الكبرى والمتوسطة على حد سواء، للتصويت لصالح القرارات الأممية التي تُعزز هذا المسار. وقد انعكس ذلك في حصول فلسطين على دعم متزايد في الأممالمتحدة، حيث ساهمت الدبلوماسية السعودية في إقناع عدد من الدول الأوروبية مثل فرنساوبريطانيا ودول أخرى باتخاذ خطوات تاريخية للاعتراف بدولة فلسطين. هذا الدور لم يقتصر على التأثير المباشر، بل شمل بناء توافق دولي عبر الجامعة العربية ومنظمة التعاون الإسلامي، لتقديم موقف عربي وإسلامي موحد داخل المؤتمر. وقد عزز ذلك من ثقل الموقف الفلسطيني، وأظهر أن دعم المملكة ليس دعماً فردياً، بل جزء من استراتيجية أشمل لخلق رأي عام دولي يميل إلى الاعتراف بفلسطين كدولة مستقلة وعضو كامل العضوية في الأممالمتحدة. دعم المملكة على مستوى المنظمات الدولية اتخذت السعودية على مر السنوات مسلكين متوازيين: دعم محاولات التمثيل الفلسطيني في المحافل الدولية، وفي الوقت نفسه حماية المواقف العربية المشتركة في المؤسسات الدولية. في نوفمبر 2012، حين نالت فلسطين صفة "دولة مراقب غير عضو"في الأممالمتحدة،ورحبت الرياض بالخطوة واعتبرتها تقدماً دبلوماسياً مهماً. كما لعبت المملكة دوراً فعالاً في دعم عمل وكالات الأممالمتحدة العاملة في الأراضي الفلسطينية، وعلى رأسها وكالة الأممالمتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا)، من خلال مساهمات مالية دورية ومشروعات تنموية، وهو ما حافظ على استمرارية الخدمات الأساسية للاجئين. الدبلوماسية السعودية خلال الأزمات التزام الرياض بالقضية ترجم خلال أزمات إقليمية إلى نشاط دبلوماسي كثيف. المملكة مارست وساطة لحشد مواقف عربية وإسلامية متوافقة، وسعت إلى توحيد المواقف إزاء خطوات أحادية قد تضر بعملية السلام، مثل ضمّ الأراضي أو نقل سفارات. كما وظفت الرياض روابطها الدولية مع الولاياتالمتحدة، والقوى الأوروبية، والهيئات الدولية لممارسة ضغط دبلوماسي على أطراف الصراع بهدف إعادة حيوية المسار التفاوضي. في السنوات الأخيرة، ومع تصاعد العنف والأزمات الإنسانية في غزة والضفة، تصاعد دور المملكة في الدعوة إلى هدنة وإيصال مساعدات إنسانية، إلى جانب نشاط ملحوظ لتنسيق جهود إغاثية مع المنظمات الدولية والدول الشقيقة والصديقة. الاعتراف بدولة فلسطين المملكة كانت من الدول التي أعلنت اعترافها بدولة فلسطين عقب إعلان نوفمبر 1988. لكن موقفها لم يقِف عند مجرد الاعتراف الرمزي؛ بل حرصت على أن يكون هذا الاعتراف جزءاً من استراتيجية دبلوماسية متسقة تدفع نحو تحقيق دولة قابلة للحياة وذات سيادة. الاعتراف السعودي تجسّد أيضاً في دعم المسارات القانونية والدبلوماسية التي تعزز من وضع فلسطين في المؤسسات الدولية، ومن ذلك دعم المملكة لطلبات العضوية والمراقبة في الأممالمتحدة والجهود التي تهدف إلى تأمين اعترافات إضافية من دول غربية وآسيوية. وفي السنوات الأخيرة، ومع التغيرات الإقليمية والدولية، اتخذت المملكة نهجاً مزدوجاً: الحفاظ على ثوابت الدعم الفلسطيني بينما تبحث عن قنوات دبلوماسية فعّالة لتعزيز فرص تحقيق الدولة. الاعترافات الدولية المتزايدة منذ الاعتراف السعودي المبكر بدولة فلسطين، تحركت المملكة في المحافل الدولية والعربية لتشجيع دول أخرى على اتخاذ الخطوة نفسها. وقد أسفر هذا عن تراكم الاعترافات عبر العقود. اليوم يعترف أكثر من 153 بلداً بدولة فلسطين، من بينهم دول في أوروبا وأميركا اللاتينية وآسيا وأفريقيا. وقد لعبت المملكة دوراً محورياً في الدفع نحو هذا الاتجاه، خصوصاً عبر علاقاتها الثنائية مع القوى الدولية. ومن أبرز الأمثلة اعتراف فرنسا بدولة فلسطين كبداية ، وهو تطور بارز جاء في سياق جهود دبلوماسية سعودية فرنسية مشتركة لإعادة الاعتبار إلى مسار السلام. كذلك، انضمت بريطانيا اخيراَ في موقف تاريخي إلى قائمة الدول المعترفة، وهو ما يعكس تحولاً تدريجياً في مواقف بعض القوى الغربية التقليدية. هذه الاعترافات لم تأتِ بمعزل عن جهود المملكة، بل ارتبطت بمسار دبلوماسي سعودي متواصل في القمم الدولية والاجتماعات الثنائية والمتعددة الأطراف، لإقناع المجتمع الدولي بأن الاعتراف بفلسطين ليس خياراً سياسياً فحسب، بل خطوة نحو الاستقرار والأمن في المنطقة والعالم. المبادرات السعودية خلال العقدين الأخيرين، طرحت السعودية مبادرات ومشروعات دبلوماسية سعت من خلالها لتحريك الجمود. من أبرزها: تجديد الدعم للمبادرة العربية للسلام: أعادت المملكة طرح المبادرة وتفعيلها في مداولات القمم العربية، مؤكدة أن المبادرة تبقى الإطار القابل للتنفيذ للوصول إلى حل شامل يضمن إقامة دولة فلسطينية مستقلة. و عملت الرياض على بناء تحالفات دبلوماسية تشمل دولاً أوروبية وشريكات دولية لإدانة سياسات الاستيطان والاحتلال، ودعمت الدعوات لاعتماد إجراءات دولية ضاغطة تُعيد الديناميكية للمفاوضات. وقدأطلقت المملكة أو دعمت مبادرات إنسانية مركزة على إعادة إعمار غزة وتقديم دعم للنازحين واللاجئين، مع استخدام هذه المبادرات كأداة دبلوماسية لتعزيز الموقف الفلسطيني في المحافل الدولية ولتبرير الدعوات المتجددة للاعتراف الدولي بدولة فلسطينية مستقلة. الدعم المالي والإنساني لا يقل الدعم المالي والإنساني أهمية عن الدعم السياسي. المملكة قدمت عبر السنوات مساعدات حكومية ومؤسساتية واسعة النطاق تشمل المساعدات الطارئة، وتمويل برامج البنية التحتية، ودعم مؤسسات التعليم والصحة، وتمويل مشاريع إغاثية ودعم الأونروا ومنظمات أممية وإقليمية. الإسهامات السعودية كانت دائماً جزءاً من استراتيجية مزدوجة: موازنة الضغوط السياسية مع تقديم بدائل ملموسة للتخفيف من المعاناة اليومية للفلسطينيين. وهذا النوع من الدعم يعزز شرعية الموقف السعودي في الدفاع عن الحقوق الفلسطينية ويجعل من الرياض صوتاً مؤثراً في المفاوضات الدولية.