استحضار مسيرة التوحيد وتضحيات المؤسس ورجاله يرسّخ في الأذهان قيمة الوحدة الوطنية، ويذكّر السعوديين بأهمية الحفاظ على تماسكهم في مواجهة التحديات، خاصة في وقت يشهد فيه العالم تقلبات سياسية واقتصادية تجعل الوعي الوطني خط الدفاع الأول لأي مجتمع.. في كل عام، ومع اقتراب الثالث والعشرين من سبتمبر، تتزين شوارع المملكة العربية السعودية بالأعلام الخضراء، وتعلو الهتافات والأناشيد الوطنية في كل زاوية، بينما تكتسي النفوس بمشاعر الفخر والانتماء. لم يعد اليوم الوطني مجرد مناسبة تمر في التقويم، بل أصبح ظاهرة ثقافية واجتماعية تُجسد الهوية السعودية وتعمّق الإحساس بالمواطنة، حتى باتت الاحتفالات به رمزًا لمسيرة شعب وحكاية وطن. لقد بدأ اليوم الوطني كحدث رسمي يستذكر فيه السعوديون ذكرى توحيد المملكة على يد الملك عبد العزيز -طيب الله ثراه- لكنه مع مرور السنوات تحول إلى ثقافة راسخة تتجاوز الطابع الاحتفالي، لتصبح أداة تربوية لترسيخ قيم الوطنية. هذه الثقافة لم تنشأ بين ليلة وضحاها، بل نمت وتطورت مع وعي المجتمع ودور الدولة في تعزيز معاني الولاء والانتماء، خاصة في ظل التحولات الكبرى التي تعيشها المملكة في إطار رؤية السعودية 2030. في العقود الأولى، كان اليوم الوطني مناسبة رسمية يغلب عليها الطابع البروتوكولي، حيث تقتصر مظاهره على رفع العلم، وإلقاء الخطب، وتنظيم بعض الفعاليات المحدودة. لكن مع نمو وسائل الإعلام، ثم الثورة الرقمية، بدأت هذه المناسبة تكتسب طابعًا شعبيًا واسعًا، وأصبح المواطنون شركاء في صناعة مشهد الاحتفال، سواء عبر تنظيم الفعاليات أو التعبير عن مشاعرهم على منصات التواصل الاجتماعي. ومع هذا التحول، نشأت ثقافة جديدة تجعل من اليوم الوطني مساحة للتعبير عن حب الوطن بمختلف الأشكال، من الأناشيد الوطنية إلى الفنون الشعبية، مرورًا بالمعارض والمبادرات التطوعية. هذه المشاركة الشعبية أسهمت في جعل الوطنية ممارسة حية وليست مجرد شعارات، حيث بات كل فرد يشعر بمسؤولية تجاه وطنه ويفكر في كيفية الإسهام فيه. ومن أبرز الأدوار التي لعبتها ثقافة الاحتفال باليوم الوطني تعزيز مفهوم المواطنة الفاعلة. فالمواطنة لا تقتصر على حمل الهوية الوطنية أو الالتزام بالقوانين، بل هي وعي ومسؤولية، وإسهام في نهضة المجتمع. ومن خلال الاحتفالات، يتعلم الأفراد -وخاصة الشباب- أن حب الوطن لا يعني الفخر فقط، بل يتطلب العمل والتفاني. كما أن الفعاليات التي تُقام في هذا اليوم أصبحت منصات توعية بالقيم الوطنية مثل احترام الأنظمة، وحماية الممتلكات العامة، والمشاركة في المبادرات البيئية والاجتماعية. فعلى سبيل المثال، تنتشر حملات التطوع التي تدعو لتنظيف الأحياء أو غرس الأشجار، وهي أنشطة تربط مشاعر الانتماء بسلوكيات عملية ملموسة. واستحضار مسيرة التوحيد وتضحيات المؤسس ورجاله يرسّخ في الأذهان قيمة الوحدة الوطنية، ويذكّر السعوديين بأهمية الحفاظ على تماسكهم في مواجهة التحديات، خاصة في وقت يشهد فيه العالم تقلبات سياسية واقتصادية تجعل الوعي الوطني خط الدفاع الأول لأي مجتمع. ولا يمكن الحديث عن انتشار ثقافة اليوم الوطني دون الإشارة إلى دور الإعلام التقليدي والجديد. فقد أسهمت القنوات التلفزيونية، والصحف، ومنصات التواصل الاجتماعي في نشر قصص النجاح والإنجازات الوطنية، وتسليط الضوء على الرموز التاريخية والثقافية. ومع تطور التقنية، أصبح بإمكان الأفراد التعبير عن وطنيتهم بطرق مبتكرة، مثل إنتاج أفلام قصيرة أو تصميم محتوى رقمي يحمل رسائل إيجابية. هذا التفاعل يعكس وعيًا متزايدًا بأهمية أن تكون الوطنية جزءًا من الحياة اليومية، وليس مجرد ذكرى سنوية. كما يشكل اليوم الوطني رابطًا بين الأجيال، فالآباء والأجداد يسترجعون ذكريات مراحل بناء الدولة، بينما يعيش الأبناء تجربة الاحتفالات الحديثة المليئة بالعروض والفعاليات. هذا التلاقي يعزز الحوار بين الأجيال، ويمنح الشباب فهمًا أعمق لتضحيات أسلافهم، ويجعلهم أكثر إدراكًا لمسؤوليتهم في حمل الراية. وتلعب المدارس والجامعات دورًا محوريًا في هذا الجانب، حيث تُنظم برامج تثقيفية ومسابقات تهدف إلى ترسيخ القيم الوطنية، وتزويد الطلاب بالمعرفة التاريخية التي تبني وعيهم وتغذي انتماءهم. ولم يقتصر أثر اليوم الوطني على الجانب الثقافي والاجتماعي، بل امتد ليشمل الاقتصاد. فقد أصبح هذا اليوم مناسبة لتنشيط السياحة الداخلية ودعم الصناعات المحلية، خاصة في مجالات الهدايا والمنتجات الوطنية، كما تستفيد القطاعات الخدمية من زيادة الحركة التجارية خلال هذه الفترة. هذا التداخل بين الوطنية والاقتصاد يعكس مفهومًا حديثًا للمواطنة، يقوم على دعم التنمية من خلال الاستهلاك الواعي وتشجيع المنتجات الوطنية والمشاركة في دفع عجلة النمو. اليوم، ومع تسارع وتيرة التغيرات في المملكة، تكتسب ثقافة الاحتفال باليوم الوطني أبعادًا جديدة. فهي لم تعد تقتصر على الفرح بالإنجازات، بل أصبحت مساحة للتأمل في التحديات المقبلة، والتفكير في دور كل مواطن في صناعة المستقبل. ولعل هذا التحول هو ما يجعل اليوم الوطني فرصة سنوية لإعادة شحن الوعي الوطني، وتجديد العهد بين المواطن والدولة، وترسيخ فكرة أن حب الوطن مسؤولية مستمرة تُترجم بالأفعال لا الأقوال. إن ثقافة الاحتفال باليوم الوطني السعودي تمثل نموذجًا فريدًا في المنطقة، فهي نتاج مسيرة طويلة من الوعي والتفاعل الشعبي. هذه الثقافة ساهمت في بناء مواطن أكثر إدراكًا لحقوقه وواجباته، وأكثر استعدادًا للإسهام في مسيرة الوطن. وفي نهاية المطاف، يظل اليوم الوطني مناسبة لا تحتفل فقط بالماضي، بل تستشرف المستقبل، وتذكر السعوديين بأن الوطنية ليست مجرد لحظة عاطفية، بل مشروع حياة مستمر يتجدد عامًا بعد عام.