بفضل السياسة الحكيمة التي تنتهجها المملكة، تتسع دور المجالس الثنائية والثلاثية التي تقيمها مع شركائها الإقليميين والدوليين لتصبح أكثر من مجرد منصات دبلوماسية رسمية؛ فهي تعد اليوم محركات عملية للاستثمار والتجارة والتحوّل الاقتصادي، وجسور حقيقية للتعاون والتنمية. وهذا التقرير يقدّم قراءة موجزة مركّزة تعتمد على بيانات وإحصاءات حديثة توضح أثر هذه المجالس في صنع قرارات اقتصادية واستثمارية ملموسة. وفي لمحة عامة فإن مجالس الشراكات (أو لجان التنسيق/المجالس التنسيقية) بين السعودية والعالم تجمع ممثلين حكوميين ورجال أعمال ومؤسسات استثمارية من البلدين لمتابعة تنفيذ الاتفاقات، وتوقيع مذكرات تفاهم، وتسهيل مشاريع مشتركة في مجالات الطاقة، النقل، الزراعة، التقنية والبنية التحتية. وعبر هذه المجالس تتجسّد العلاقة الدبلوماسية في صفقات واستثمارات محدّدة تُقاس بالأرقام الاقتصادية. وعلى مستوى الصفقات التنفيذية، خرّجت هذه المجالس باتفاقيات كبيرة؛ ومثال عملي حديث هو شراكة بين وحدات لشركات نفطية سعودية وصينية بقيمة تقارب 4 مليارات دولار في مشروع مشترك يبرز كيف تتحوّل محادثات المجالس إلى مشاريع صناعية وتجارية ذات أثر اقتصادي مباشر. أما على قيمة الدخول العام للاستثمار الأجنبي، فتعكس الأرقام الأخيرة قفزات مهمة، فلقد أظهرت بيانات مؤسسات بحثية أن إجمالي تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر إلى السعودية سجل مستويات قوية في الأعوام الأخيرة، وهو مؤشر على فعالية المناخ الاستثماري الذي تعزّزه أيضاً آليات الشراكة الحكومية. «جسور تنمية» وتسعى المملكة العربية السعودية عبر رؤية 2030 إلى جعل الشراكات الدولية ركيزة للتنمية الاقتصادية، وتنويع مصادر الدخل، وتعزيز مكانتها في الاقتصاد العالمي. وتُعتبر مجالس الشراكات إحدى الأدوات الأكثر فاعلية لترجمة هذه الأهداف إلى واقع ملموس. وتعمل تلك المجالس كجسور للتنمية، من خلال ترجمة النوايا إلى اتفاقيات قابلة للتنفيذ، فالاجتماعات ولو كانت روتينية لكنها تُنتج قوائم تنفيذ عقود وخطط زمنية لمشروعات. والتحوّل من تصريح سياسي إلى عقد استثماري يتم غالباً في إطار هذه المجالس.وتعمل هذه المجالس على تسهيل وتبادل الخبرات والقدرات المؤسسية، ولا تقتصر الفائدة على المال فقط، بل تشمل نقل تكنولوجيا، وتدريب مهني، وشراكات تعليمية بين مؤسسات بحثية وجامعات. وخلق ديناميكية سوقية ثنائية، فالاتفاقيات تفتح قنوات استيراد وتصدير جديدة، وتُعزّز سلاسل إمداد إقليمية، ما يدعم أنشطة قطاع خاص محلي ويجذب رؤوس المال. كما أن تلك الشراكات تعد أداة لامتصاص المخاطر السياسية والاقتصادية، من خلال وجود آليات متابعة في المجالس يساعد في ضبط تنفيذ المشاريع وتقاسم المخاطر بين الشركاء. وضمن مساعي المملكة لتحقيق رؤية 2030 وتنويع اقتصادها وتعزيز موقعها الريادي، ظهرت عدة نماذج بارزة من مجالس الشراكة مع دول ومنظمات دولية أثمرت عن إنجازات ملموسة. وفي هذا السياق، نسلّط الضوء على ثلاثة نماذج بارزة أثمرت عن نتائج ملموسة على مستوى الاستثمار والتنمية. «شراكات متنوعة» ونستعرض أدناه بعض هذه النماذج وكيف تحولت من مجرّد واجهات دبلوماسية إلى محركات تنمية. والنموذج الأول: المجلس السعودي الصيني للأعمال، والبداية والهيكلة كانت منذ أن تأسس المجلس منذ أعوام مضت، بمشاركة القطاعين العام والخاص في البلدين، ليشمل قطاعات متعددة مثل الطاقة، الصناعة، التقنية والخدمات المالية. وأهم المبادرات ربط رؤية 2030 مع مبادرة الحزام والطريق الصينية، وتفعيل التعاون الصناعي، وتشجيع الشركات الصينية على الاستثمار في السوق السعودي، مع التركيز على نقل التقنية وتوطين بعض العمليات. والنتيجة أن الاستثمار الصيني في المملكة تجاوز عشرات المليارات من الدولارات، وارتفع حجم التجارة بين البلدين. كما بدا تأثير هذه الشراكة في زيادة عدد الشراكات والمشروعات المشتركة التي تجمع بين الابتكار والتصنيع المحلي. والأرقام تجاوز حجم التجارة بين السعودية والصين أكثر من 116 مليار دولار سنوياً خلال 2023، لتكون الصين الشريك التجاري الأول للمملكة، وارتفع حجم الاستثمارات الصينية في المملكة إلى ما يفوق 30 مليار دولار عبر مشاريع مشتركة في مجالات الطاقة المتجددة، البتروكيماويات، والتقنية. والأثر التنموي لهذه الشراكة نقل التقنية وتوطين بعض الصناعات التحويلية، وفتح سوق ضخم للصادرات السعودية خارج نطاق النفط التقليدي. والذي جعل الشراكات السعودية الصينية متميزة، هو الارتكاز على مصالح استراتيجية متبادلة فالسعودية هي أكبر مصدر للنفط الخام إلى الصين، والصين هي أكبر شريك تجاري للمملكة، وهذا الارتباط الاستراتيجي في الطاقة جعل العلاقة قاعدة صلبة يُبنى عليها تعاون أوسع. إضافة لذلك التقاء الرؤى التنموية فرؤية السعودية 2030 تركّز على تنويع الاقتصاد، وتحديث البنية التحتية، وجذب الاستثمارات. كما أن مبادرة (الحزام والطريق الصينية) تبحث عن شراكات لوجستية واستثمارية في المنطقة، والجمع بين الرؤيتين خلق مساحة مثالية لمشاريع مشتركة في الموانئ، النقل، والصناعات. وهذا ماصنع ضخامة الأرقام حيث بلغ حجم التجارة بين البلدين أكثر من 116 مليار دولار في 2023، لتصبح الصين الشريك التجاري الأول للسعودية. «سعودي إماراتي» النموذج الثاني: مجلس التنسيق السعودي–الإماراتي، والهدف: تأسيس مجلس تنسيق بين السعودية والإمارات وانطلق منذ 2016 ليكون منصة عليا للتنسيق في أكثر من 40 مجالاً، منها الأمن الغذائي، الصناعة، الاقتصاد الرقمي، والطاقة. وليُركّز على تنسيق السياسات في عدة مجالات استراتيجية مثل الأمن، التجارة، الاستثمار، والتنمية، وآليات العمل وجود لجان تنفيذية مشتركة، اجتماعات على مستوى الوزراء، مشروعات شراكة في البنية التحتية، وتنمية القدرات البشرية. وأهمية النموذج باعتباره أحد أهم المجالس الثنائية التي تجمع بين دولتين خليجيتين، قدم نموذجاً لتكامل اقتصادي وإداري، وتقليل الحواجز التنظيمية والتشريعية أمام المشاريع المشتركة، وهذا ساعد في تسريع تنفيذ الاتفاقيات بين البلدين. وبالأرقام: بلغ حجم التجارة غير النفطية بين البلدين قرابة 90 مليار ريال سعودي (24 مليار دولار) في 2023، بزيادة واضحة عن الأعوام السابقة. وتم إطلاق أكثر من 20 مشروعاً مشتركاً في قطاعات اللوجستيات، التعليم، والطاقة المتجددة.والأثر التنموي تقليل الحواجز التنظيمية، تعزيز سلاسل الإمداد بين البلدين، وزيادة الاستثمارات المتبادلة بما يسهم في تكامل اقتصادي خليجي حقيقي.والشراكات السعودية – الإماراتية تميّزت لأنها تقوم على تكامل نقاط القوة، تشابه الأهداف، وجود آلية تنفيذية جادّة، واستقرار سياسي وأمني. كل هذه العوامل جعلتها نموذجاً يُحتذى به إقليمياً ودولياً. وتتشابه الرؤى الاستراتيجية، فرؤية السعودية 2030 ورؤية الإمارات 2071 تتقاطعان في محاور رئيسية مثل: التنويع الاقتصادي، التحول الرقمي، الطاقة المتجددة، والابتكار. وهذا التشابه جعل المشاريع المشتركة تنطلق بسهولة لأنها تخدم مصالح الطرفين في آن واحد. وهذا التنوع قلّل من المخاطر وزاد من فرص الاستدامة الاقتصادية. «سعودي أردني» والنموذج الثالث: صندوق الاستثمار السعودي الأردني والتأسيس أُطلق عام 2017 بشراكة بين صندوق الاستثمارات العامة السعودي وبنوك أردنية، بهدف دعم مشاريع استراتيجية في الأردن. للاستثمار في مشاريع البنية التحتية وغيرها من القطاعات الواعدة في الأردن. والأنشطة والمشروعات استثمار في مشاريع بنية تحتية، طاقة، وربما تنمية حضرية وغيرها. والصندوق يُعد جسراً استثمارياً ينقل الخبرة والتمويل السعودي إلى الدول الشقيقة مع عوائد مالية واقتصادية على الجانبين. وتعزيز فرص التنمية في الأردن، دعم النمو الاقتصادي، وخلق فرص عمل. أيضاً ساعد على جذب استثمارات أخرى وإظهار أن الشراكة ليست فقط مالية بل تنموية. وبالأرقام بلغ رأس مال الصندوق بنحو ثلاثة مليارات دولار، وبدأ بضخ استثمارات في قطاعات الصحة، النقل، والبنية التحتية، ومن أبرز مشاريعه: مستشفى جامعي متكامل بقدرة استيعابية تتجاوز 300 سرير، ومشروع للنقل العام في عمّان. والأثر التنموي خلق آلاف فرص العمل في الأردن، تعزيز الدور الاستثماري للسعودية في المنطقة، وتوطيد العلاقات الاقتصادية الثنائية على أساس التنمية المشتركة. وفي قراءة تحليلية، فإن ما يجمع هذه النماذج الثلاثة هو: أولا: الربط الاستراتيجي بين رؤية السعودية 2030 وخطط التنمية لدى الدول الشريكة. وثانيا: آليات متابعة تنفيذية عبر مجالس أعمال أو صناديق مشتركة تمنع الجمود وتسرّع الإنجاز. وثالثا: تنويع القطاعات من الصناعة والتقنية إلى البنية التحتية والصحة، بما يتجاوز الاعتماد على النفط. ورابعا: أثر مزدوج لا يقتصر على المكاسب الاقتصادية، بل يضيف بعداً اجتماعياً عبر خلق الوظائف، وتحسين البنية التحتية، وبناء القدرات البشرية.وأثبتت التجارب أن مجالس الشراكات السعودية مع الدول ليست مجرد لقاءات بروتوكولية، بل أدوات تنفيذية حقيقية تؤثر في مؤشرات التجارة والاستثمار والتنمية. النموذج الصيني يبرز الشراكات الصناعية الكبرى، النموذج الإماراتي يوضح التكامل الخليجي، أما النموذج الأردني فيجسد البعد التنموي والاستثماري الإقليمي. هذه النماذج تقدم صورة عن كيفية استخدام السعودية لهذه المجالس ك جسور عملية للتعاون والتنمية. «مشروعات مشتركة» والنموذج الرابع توسعة المجمع البتروكيميائي بين أرامكو وسينوبك، والوصف: مشروع مشترك بين الشركة السعودية أرامكو وشركة سينوبك الصينية عبر Yasref على الساحل الغربي للمملكة. والمبادرة الجديدة الإعلان عن توسعة المجمع بتضمين وحدات تكسير بخارية (steam cracker) بسعة 1.8 مليون طن سنوياً مع مجمع أروماتيات بسعة 1.5 مليون طن في السنة. والدلالة في هذا أن التوسع يظهر كيف أن مجالات الشراكة السعودية ليست محدودة بالتكرير أو النفط الخام بل تتصل بصناعات تحويلية ذات قيمة مضافة كبيرة، كما أنه يعمّق القدرة التصنيعية داخل المملكة. كما يسهم في تخفيف أثر تقلبات أسعار النفط من خلال التنويع الصناعي. والنموذج الخامس التحالف في قطاع المعارض والفعاليات، والتأسيس لشركة مشتركة بين اتحاد الأمن السيبراني والبرمجة والطائرات بدون طيار السعودي، و (إنفورما البريطانية) لتنظيم المعارض والفعاليات في السعودية. والإنجازات تنظيم فعاليات كبرى مثل LEAP وBlack Hat Middle East & Africa وغيرها، والتوسّع في تنظيم معارض في قطاعات متعددة مثل الصحة، الطعام، العقارات والخدمات الرقمية. والأثر التنموي لهذه الشراكة خلق فرص عمل، بناء قدرات محلية في تنظيم الفعاليات، تنشيط الاقتصاد المحلي وخاصة قطاع السياحة الداخلية، وتحسين الصورة الدولية للمملكة كمركز للمعارض والابتكار. العوامل المشتركة لنجاح هذه النماذج من تحليل هذه النماذج، تظهر عدة عوامل أساسية جعلتها ناجحة: 1.التوافق الاستراتيجي بين الأهداف الوطنية السعودية (مثل رؤية 2030) وأهداف الشركاء الخارجيين، مما يوفر دافعاً قوياً للدعم والمشاركة. 2.آليات تنفيذ واضحة مثل وجود مجالس ومتابعة دورية، لجان تنفيذية، مذكرات تفاهم تتحول إلى عقود واستثمارات فعلية. 3.تنوع القطاعات: ليست الشراكات فقط في النفط والغاز، بل التكنولوجيا، التعليم، الرعاية الصحية، الفعاليات، التصنيع، والابتكار. 4.نقل المعرفة والتقنية وتوطين الخبرات، بحيث لا تكون الشراكة قائمة على الاستيراد فحسب، بل على البناء المحلي للقدرات. 5.الشراكة بين القطاعين العام والخاص، بحيث يشارك القطاع الخاص بخبرته واستثماراته، مع دعم سياسي وتنظيمي من الدولة. «تحديات وملاحظات» ونماذج الشراكات الدولية السعودية المذكورة تُبرز أن المملكة لا تكتفي بإبرام الاتفاقيات بل تسعى لتحويلها إلى مشروعات تنموية ذات أثر اقتصادي واجتماعي. من توسعة المصانع والمجمعات البتروكيميائية، إلى الشراكات الصناعية والتعليمية، ومن المعارض الدولية إلى تمكين الاقتصاد المحلي، كلها أمثلة تُظهر أن مجالس الشراكة هي أدوات فعالة إذا ما أحكمت آلياتها واستمرارية العمل بها. وكل ذلك بلا شك يعترضه تحديات كبيرة ولعل تحويل الاتفاقات إلى مشاريع مُستدامة ليس كل ما يُعلَن في المجالس يُنفّذ بسرعة، فالفجوة بين الإعلان والتنفيذ ما زالت قائمة أحياناً بسبب عوامل تنظيمية أو تمويلية. ومن المعلوم أن الاعتماد على قطاعات محددة يحتاج إلى تركيز كبير على الطاقة والبنية التحتية قد يترك قطاعات أخرى (مثل الصناعات الخفيفة والتكنولوجيا الناشئة) بحاجة إلى دفعات أكبر عبر مجالس مخصّصة. والشفافية والقياسات ضرورية لإنجاح المجالس ويقاس ذلك ليس بعدد الاتفاقيات فقط، بل بمقدار الوظائف المنشأة، القيمة المضافة المحليّة، وتقليص الاعتماد على تصدير المواد الخام، وهناك عناصر تتطلب مؤشرات أداء واضحة ومعلنة. وتُثبت الإحصاءات والصفقات الأخيرة أن مجالس الشراكات السعودية مع الدول لم تعد شكلاً بروتوكولياً فحسب؛ بل صارت منصات إنتاجية تترجم الحوار السياسي إلى تعاون اقتصادي وُقِعَت عليه عقود ومشاريع. فمن اتفاقيات استثمارية بقيمة مليارات دولارات، إلى نمو في التجارة الثنائية، تُظهر الأرقام أن هذه المجالس تُسهم فعلاً في تعزيز مسارات التنمية، شريطة وجود متابعة تنفيذية وشفافية عالية لقياس الأثر الحقيقي على الاقتصاد المحلي والوظائف والتنمية المستدامة.