شكّل الهجوم الإسرائيلي على العاصمة القطريةالدوحة، والذي وقع يوم التاسع من الشهر الجاري، سابقةً خطيرة لها ما بعدها بكل تأكيد، حيث برهنت الضربة على أننا على أعتاب مرحلةٍ مختلفة عما سبقها وعقيدةٍ عسكرية إسرائيلية جديدة تتشكل في المنطقة تتجاوز كل الخطوط الحمراء، والتي لن تعود حمراء بعد الآن، كون هذه العقيدة قامت بإطالة أمد الحرب، والضرب في كل اتجاه، وفتح جبهات عدة في آن واحد، وتجاوز كل الأعراف، وصولاً لضرب دولة مسالمة وصديقة للغرب، تسعى في الوساطة لإنقاذ أسرى إسرائيليين، لم تعد مجرد تصور شخصي خاص بنتنياهو للبقاء في السلطة بقدر ما أصبحت رؤية عامة تحظى بتأييد أطياف عدة ومعتبرة داخل المجتمع الإسرائيلي، كما كشفت عن ذلك استطلاعات الرأي الإسرائيلية التي جرت مؤخراً، وأبرزت ارتفاع شعبية نتنياهو عقب هذا العدوان. هجوم الدوحة الذي استهدف قيادات فلسطينية مقيمة بقطر بسرب من 15 طائرة هجومية دفعة واحدة، لا شك أنه أصاب كل معادلات السلام الإقليمي في مقتل، وما كان يُنظر إليه على أنه خط أحمر وقواعد لا يمكن المساس بها لاستقرار المنطقة بدا عقب الهجوم هشاً ضعيفاً، وهو ما يُنذر بفوضى شاملة في المنطقة ما لم يتحرك المجتمع الدولي بشكل جماعي، وتتم محاسبة إسرائيل على عربدتها وسلوكها غير المسؤول، بعدما أمنت العقوبة جراء الدعم الأميركي غير المشروط، إذ أصبح الطريق مفتوحاً أمام نتنياهو لارتكاب أي حماقة تلوح له وصولاً إلى أهدافه، بل إنه يتفاخر في حديثه للإسرائيليين بأنه يواجه سبع جبهات في آن واحد، وخرج متبجحاً بعد الهجوم على الدوحة بأيام ليتهم قطر باستغلال هذا الهجوم لمحاصرة تل أبيب دبلوماسياً، فيما لم يخفِ نواياه بإمكانية تكرار هجومه قائلاً: إنه لا يوجد مكان آمن لمن قادوا السابع من أكتوبر. لقد أسهم ترمب بأخطائه العديدة ودعمه المطلق لنتنياهو في كل ما تعانيه منطقة الشرق الأوسط الآن من اضطراب، فقد تخلت أميركا عن دور الوسيط وتماهت تماماً مع وجهة النظر والرؤية الإسرائيلية، وما استدعاء نتنياهو لحلم إسرائيل الكبرى الذي كرره مؤخراً في العديد من خطاباته إلا نتاج هذا الدعم، وتحت ذريعة الأمن القومي لدولة إسرائيل يهاجم الاحتلال لبنان وإيران ويضم الضفة ويحتل مساحة تقترب من ضعف مساحة غزة بدولة سوريا ويدعم بعض طوائفها في مواجهة الدولة، ويقصف الطيران الإسرائيلي إحدى سفن أسطول الصمود على السواحل التونسية، ويرتكب حرب إبادة على الهواء بحق الفلسطينيين دون رادع، ثم كان هجومه الأخير على قطر إعلاناً رسمياً بإنهائه المسار التفاوضي ورفضه سبل التهدئة، وهو في كل هذه الضربات الاستباقية يتذرع بحماية حدود إسرائيل، تلك الحدود غير المرسومة وغير المحددة أو المعلومة لأحد، كما أن ما سربته وسائل إعلامية عالمية عدة وكذلك الصحف والقنوات الإسرائيلية من علم ترمب بالهجوم قبل بدئه بأكثر من خمسين دقيقة، يعني بالتأكيد موافقته عليه، كونه لم يمنع نتنياهو من تنفيذ الهجوم أو على الأقل يخبر القطريين به، ما يضع البيت الأبيض في حرج مع أحد أهم حلفائه بالمنطقة، وفي دولة تضم أكبر قاعدة عسكرية أميركية بالشرق الأوسط، وهو ما يصنع مفارقة بين التصريحات الرسمية وما يجري من تواطؤ بالخفاء. وهذا الدعم اللامحدود من ترمب لنتنياهو باعتقادي هو السبب الوحيد وراء استعجال نتنياهو لإنهاء كل الملفات التي كان يُعد لها على نحو أبطأ من ضم الضفة الغربية ومحاولة القضاء على حزب الله في لبنان وإنهاء الملف النووي الإيراني وتهجير فلسطينييغزة بشتى السبل واحتلال القطاع والإجهاز على القضية الفلسطينية، ومن ثم إعادة تشكيل الشرق الأوسط كما قال هو صراحةً، لولا الإجماع والرفض العربي للتهجير الذي لا يزال يقف عقبة في سبيل تحقيق ذلك. ولعل هذا ما لمسه القادة العرب وشددت عليه كلماتهم الحاسمة في القمة العربية الإسلامية الطارئة التي استضافتها الدوحة لبحث تداعيات هذا الهجوم، وجاء البيان الختامي حاملاً لهجة غير مسبوقة، حيث دعا إلى مراجعة العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية مع إسرائيل، وتنسيق الجهود من أجل تعليق عضويتها بالأممالمتحدة، رافضاً بشكل كامل ومطلق التهديدات الإسرائيلية المتكررة بإمكانية استهداف دولة قطر مجددًا أو أي دولة عربية أو إسلامية، ومؤكدًا على الأمن الجماعي المشترك، في رسالة واضحة في وجه إرهاب الدولة الإسرائيلي بحق منطقتنا. وقد سبق هذه القمة تصريحات سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان الحاسمة، إذ أكد أمام مجلس الشورى رفض المملكة للهجوم الإسرائيلي الذي استهدف الدوحة، وأن الاعتداء على قطر يتطلب تحركاً دولياً لمواجهة العدوان الإسرائيلي واتخاذ إجراءات دولية لإيقاف سلطة الاحتلال وردعها عن ممارساتها الإجرامية في زعزعة أمن المنطقة واستقرارها، قائلاً بعبارة واضحة: «سنكون مع دولة قطر الشقيقة في كل ما تتخذه من إجراءات بلا حد، ونسخر كافة إمكانياتنا لذلك». نعم، بعيداً عن عنتريات من يتحدثون عن قطيعة تامة مع الولاياتالمتحدة أو مواجهة عسكرية عاجلة مع الكيان رداً على هذا الهجوم، والتي يبدو العالم العربي بانقساماته الحالية واختلاف توجهاته وتشتت أهدافه غير مستعد لها، وقد تفضي إلى تصعيد وحرب إقليمية لا يملك عالمنا العربي حالياً مقوماتها، يظل الرد الأكثر إيجابية متمثلاً في تحرك سياسي حاسم وإجراءات دولية لعزل هذا الكيان وردعه عن زعزعة استقرار المنطقة، عبر تحرك جماعي وخطوات عملية تُشعر إسرائيل بكلفة تصرفاتها، هذا من جانب، ومن جانب آخر استغلال ميل معظم الدول الأوروبية وتصريحاتها بنية الاعتراف بدولة فلسطين للضغط على إسرائيل خاصة، وقد خسرت معركتها الإعلامية عالمياً للمرة الأولى وخسرت معها معركتها الأخلاقية وصورتها التي لطالما سوّقتها للعالم كدولة ضحية وسط محيط معادٍ لها، والفضل في ذلك بعد الله يعود لتضحيات الشعب الفلسطيني المهولة، يضاف إلى ذلك إقرار الأممالمتحدة بأن ما يجري في غزة هو إبادة جماعية، وهذا الضغط تملك المملكة العربية السعودية ودول الخليج التحرك من خلاله وتحقيق نتائج كبيرة، بما للمملكة وجيرانها من نفوذ اقتصادي وسياسي كبيرين مع كثير من الدول الكبرى وكذلك الضغط على الولاياتالمتحدة لتقليل دعمها غير المشروط لإسرائيل. وفي هذا السياق، تبرز مبادرة حل الدولتين التي دعت إليها السعودية وفرنسا قبل فترة قريبة وتعود إلى الواجهة، بعدما اعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة، قبل أيام بأغلبية ساحقة مشروع قرار يؤيد «إعلان نيويورك» بشأن تنفيذ حل الدولتين وإقامة دولة فلسطينية مستقلة، ما يعكس توافقاً دولياً واسعاً على أهمية الدفع باتجاه تحقيق السلام، وإنهاء الاحتلال الإسرائيلي، وتمكين الشعب الفلسطيني من حقوقه المشروعة وإقامة دولته المستقلة. وختاماً، نقول «رب ضارة نافعة»، فالهجوم الذي شنه الطيران الإسرائيلي على دولة قطر الشقيقة لعله يكون سبباً في توحد العرب وجمع كلمتهم واصطفافهم ضد الجنون والغطرسة الإسرائيلية وعبثها بأمن المنطقة، ولعله كذلك يصبح نقطة تحول مفصلية في العلاقات الدولية بانضمام العديد من الدول الكبرى للمبادرة العربية التي قدمتها المملكة بما يعيد رسم التوازن بالمنطقة ويضع حداً لتجاوزات الاحتلال الإسرائيلي، فالعالم لا يحترم سوى الأقوياء وقوة العرب في وحدتهم، والمملكة بما لها من نفوذ سياسي واقتصادي وعلاقات قوية مع الدول الكبرى مع جيرانها قادرة على قيادة هذا المجهود، وإعادة تشكيل التحالفات الإقليمية، وعلى الرغم من إدراك أن الأنظمة العربية ليست جميعاً على نفس القدر من الالتزام أو الاستقرار إلا أن رمزية العمل الجماعي لا يمكن التراجع عنها لتشكيل قوة ضاغطة تستطيع الفعل بعيداً عن بيانات الشجب أو الإدانة التي لن تردع دولة مارقة هي الأقوى استخباراتياً وتمتلك أقوى وأحدث ترسانة عسكرية بالمنطقة وتحظى بدعم أميركي مطلق عن تكرار جرائمها ولو كانت هذه الإدانات صادرة عن مجلس الأمن نفسه.