في فضاء التأمل تبدأ حكاية الحركة نحو اليقظة التامة من سباتها إلى قراءة الظاهر الموجود، فالطبيعة التي أمام ناظريك هي مشهدٌ نحو قراءة تاريخ إنسانيتك؛ فكل ما فيها من أثر ثقافي تراثي.. إلى أعظمها دلالةً وهي المستحاثات التي ثبتت نظريًا أنها تعود لعصور سحيقة ما قبل التاريخ من بقايا أثار لهياكل عظمية لكائنات بشرية عاشت سلفًا؛ بالإضافة لأدوات الصيد والطهي وأشياء أخرى مرتبطة بمسكنه وعاداته. ونستخرج من هذا الارتباط سؤالٌ وجداني؛ يتعلق بثقافة عصر ذلك الإنسان، والفنون التي صنعتها يده، هل هي من مخرجات العقل؟ أم الحاجة الملحة هي التي ولّدت صُنع هذا الفن؟ ففي لحظة التكوين كان لا يعلم شيئًا ولكن تبادرت إليه الأشياء من حاجته وخياله اللذين أوجدتا هذه الفنون والتي بدورها تطورت عبر العصور أي عندما أخذ العقل بالتكوين. ومن هنا نستشف مقولة غوستاف لوبون (الفلسفة الحقيقية للوجود في جانب، والفلاسفة في جانب، فلا يد لهم في تكوينها) وهل هو محق في الذي قاله؟ بالطبع لقد أصاب، فكل هذا العالم في فضاءه العريض هو منبعٌ وجدانيٌ إلى عقل الإنسان، فالتأمل وضع له خيالًا واسعًا يدرك معنى الأشياء ويفسرها تفسيرًا أدبيًا لتكون له منطلقًا عقلانيًا في وضوح معنى وجوده ومعنى ما هي الموجودات الأخرى بالإضافة لصناعة الأدوات والتي بدورها تشكل بذور الأنثروبولوجيا الثقافية. هذه من ناحية، ومن ناحية الفيلسوف: فهو لم يتفلسف إلا من خلال اكتمال كل الموجودات، خاصة الطبيعة البشرية الاجتماعية وبلوغ عقلها ونضجه في صناعة أهم احتياجاتها المادية والتي نعني بها الأساسية. فكل هذه التصنيفات مظاهر لصناعة افتراضاته والإبحار في عقله الذي يحتوي أجوبةً من ذاكرةٍ مغمورة شاءت أن تخرج لنا أسئلةً جديدة، ومن المعروف أن السؤال الفلسفي لا يكف عن التساؤل لو حتى وجد الجواب؛ فلا بد من سيرورة ومن هذه السيرورة وجدت المدارس الفلسفية الكبرى. إذًا فالطبيعة لها دورها المعتاد نحو تقدم الإنسان، ولكن التاريخ له دوره الأكبر في مسرح تسارع الاحداث، إذ كلما ظهر ابتكار حديث؛ ظهرت لنا مدرسة فلسفية جديدة، كمثال ظهور التاريخية المادية والوجودية والبنيوية والتفكيكية وغيرها. ولك أن تتوقع في هذا الزمان من تطور التقنية وظهور ذكاءها الاصطناعي، فله ارتباطٌ قويٌ بظهور مدرسة فلسفية جديدة تعيد تحاكي التساؤل مرة أخرى، ولكن هذه المرة عن مدى مصير عقل الإنسان وليس مصير الإنسان نفسه؛ كما ظهر هذا الأمر قُبيل واثناء الحرب الكونية الثانية من سؤال ما بعد الحداثة وما مدى مصير الإنسان ونهاية التاريخ. ولكن ها هو ذا الإنسان ماثلٌ أمامك بعقله لم يحدث له شيء بل على العكس طور من قدراته وبلغ بعقله أوج اتساعًا؛ حتى صنع لنفسه عقلًا آخر غير عقله الطبيعي؛ مما أضحت مخاوف أخلاقية في استخدامه بطرق غير مشروعة في انتحال بحوث علمية أو يستعيره في أمور أخرى مما يعطل الذاكرة الطبيعية.. إلخ من آليات تستدعي تكثيف دراسة فلسفة التقنية المعاصرة والبحث حول تطوراتها وما مدى تقنينها.