قد تنشأ حقول معرفية أو علميّة، وتسيير سيراً مثمراً، ولكن لكل سير لا بدّ من تراكم أزمات تضخّم العقبات؛ فتتحول لسدّ مميت لهذا الحقل. فمع التاريخانية جاءت أزمة دراسة الإسلام مع سؤال الأصالة في القرن التاسع عشر، وذلك وصلاً لعلميّة الإسلام بالإغريق والرومان، ومع اختلاطه باللاهوت أعيدت أزمة أخذ الإسلام عن اليهودية والمسيحية، كذا من شقّ موقف الحروب الصليبية منه، ومع الاستعمار من قبل دول أوروبية لديها مدارس استشراقية معروفة، كالإنجليز والفرنسيين؛ فقد تكبّد هذا الحقل خسائر فادحة، وصار حقلاً توجه له الضربات القاضية تباعاً، وهذه الضربات موجهة إلى «العلميّة» التي تهبه المشروعيّة، فنزعها يعني نزع أصل ظهور هذا الحقل. فاستحالت مع ترك هذه الأزمات دون معالجة إلى لا علميّة أضرّت به غاية الإضرار، وتصاعد نقده داخلياً وخارجياً، خصوصا مع التحولات التي شهدتها المناهج البحثية والعلمية الأكاديمية الغربيّة، واشتباك عدد كبير من العرب والمسلمين في نقد الاستشراق، إن من خلفية إيديولوجية أو دونها. ومن ذلك الضربة غير المميتة التي وجهها إدوارد سعيد للاستشراق وفق وجهه الاستعماري، وقد أثّر كتابه في تملّص بعض الدارسين للشرق من مسمى «استشراق» لتحوّله للقب معيب، ومن ثم الانخراط في تسميات تخصصية أدقّ، ليتحوّل الأمر إلى دراسات أكاديمية تخصصية، نحو: «الدراسات الإسلامية Islamic studies»، أو «الدراسات القرآنيّة Quranic Studies»... وغيرها من التسميات. وفيما كتب سعيد جزءا من نقد داخلي للاستشراق، لكن ليس كل الاستشراق، فليس كل دارس للشرق معنيّ بتكوين صورة عن هذه الأمة من الناس على مر القرون، ولا خدمة أهداف أيديولوجية أو دينية أو سياسيّة، بل كثير منهم يقدّم دراسة للآخر قد تخدمه. إلا أنّ ضربة سعيد ولو كانت قويّة؛ لم تكن بقوّة ضربة «المراجعون الجدد» (أو الاتجاه التنقيحي)؛ في تعنتهم الشديد، ونزع أصل الإسلام تماماً لا مجرّد الرد كما كانت الأزمات الداخلية في دراسته للإسلام بشكل خاص -وإن كانوا قد استخدموه-: ردّ الإسلام في دينه إلى أصول مسيحية أو يهودية وأحياناً بوذية كالتصوّف، وأمّا الثقافية الفكريّة فردّه للثقافات القديمة كالإرث الإغريقي، وأمّا اللغوية فردّه للسيريانية أو اللغات القديمة (وتكثف هذه الأزمات يحتم المساءلة التاريخية، والنظر المنهجي، والمقدمات المنطلق منها لدراسة المشرق، وذلك بغية تطوير حقل الدراسات الإسلامية، الذي أخرج بفضل جهود المستشرقين إذّاك تحقيقات ونشرات للتراث كثيرة، واهتمام بالدراسات المنطلقة من رؤية المستشرقين في جزء كبير منها للإسلام بحسب خبراتهم الذاتية في النظر للأديان أو الثقافات أو اللغات). فالضربة القاصمة للاستشراق مع «المراجعون الجدد» أحاله إلى تخصص مات ودفن -بحسب رضوان السيّد-، نازعة أصالة النشأة الإسلامية، وأنها حالة متخيلة ومتصوّرة إن بفعل السياسة تارة، أو الأيديولوجيات تارة... وهكذا، مع نقد جهود المستشرقين العلميين السابقين -بنسبة كبيرة-، ونسبة بعضهم لمصالح ومطامع من دول إسلاميّة، تشككياً في جهدهم البحثي والتحقيقي -إن قرأوا لهم-، وهذه النزعة التي يسميها «رضوان السيد» الراديكالية»، هي التي قضت على الاستشراق، فضلا عن تورطها الإعلامي والشعبي في «الإسلام فوبيا»، يقول السيّد: «والمقولة السائدة لديهم أنه عند ظهور الإسلام وإلى قيام الإمبراطورية الإسلامية، ما كانت هناك وثائق مكتوبة. ولذلك لا بدّ من الاعتماد على كتابات الأمم الأخرى من ذلك الزمان، على الرغم من الشحّ وعدم الاهتمام. حتى إذا بدأت الكتابة في الدين والتاريخ عند المسلمين بعد منتصف القرن الثاني الهجري؛ فإنّ هؤلاء رأوا أن الطرفين اشتركا: العلماء والأُمراء في اصطناع صورةٍ أو صُوَرٍ للنبوة والقرآن والإسلام الأول. ولذلك ينبغي النقد والتفكيك. بل إنّ البعض منهم ما قبلوا أن تكون كتب مثل الأم للشافعي والخراج لأبي يوسف والأموال لأبي عُبيد من أواخر القرن الثاني، وأنها كانت مسوّدات أنجز تلامذتهم مبيضاتها في القرن الثالث وما بعد!». فضلاً عمّا سبق هذه القرون من «القرآن الكريم» نفسه، و»السنّة المطهّرة». وقد قاد هذه الراديكالية «جون وانسبرو»؛ الذي زعم أنّ كتابة القرآن الكريم استقرت في القرن الثالث الهجريّ! وهذا الاتجاه يسمّيه «ليونارد بايندر» ب «الاستشراق الرديء؛ ومن التسمية الأخيرة إشارة إلى أنّ هذا التوجه أيضاً يتعرّض للنقد ومحاولة التصحيح، وإن كان «رضوان السيّد» يرى موت الاستشراق منذ السبعينات، وما كتاب إدوارد سعيد إلا كتاب عن شيء مات وانتهى.