عبر تاريخ العالم خلال الخمسة قرون الماضية أثبت التاريخ أن صناعة التحول العالمي تصنع معها دولًا وقيادات جديدة تسهم في تحقيق الإنجازات، وهذه الفرصة متاحة لدولنا كي تستثمر في التاريخ لصناعة مكانتها المستقلة؛ ليس عبر إعلان التحالفات، ولكن من خلال الالتزام المستقل واستثمار المنتجات السياسية الاقتصادية للعالم كله بلا استثناء.. شهد العالم خلال الأيام الماضية لقاءً مهماً ظهر فيه ثلاثة رؤساء لدول لها أهميتها، ولكن اثنين منهم يمتلكان التأثير الفعلي العالمي، أما الثالث فهو حليف يمكن استخدامة فقط للضغط الدولي، وقد اكتشف ترمب خلال فترة ولايته الأولى وفي زيارته التاريخية لكوريا الشمالية أن كوريا ستصبح أداة ضغط وذلك بعد لقائه التاريخي في العام 2019م مع كيم جونغ في المنطقة منزوعة السلاح بين الكوريتين. وبالعودة إلى ذلك المشهد المهيب حيث وقف رؤساء الصين وكوريا الشمالية وروسيا جنبا إلى جنب يوم الأربعاء الثالث من سبتمبر 2025 ومعهم رؤساء دول أخرى، بينما ملأت المعدات العسكرية عالية التقنية وآلاف الجنود شوارع بكين، هذا الاستعراض لا يمكن أن يخرج إلا من خلال ممرات التاريخ؛ فالتاريخ هو أصدق ما يمكن أن يتم من خلاله توقع المستقبل والتنبؤ بشأنه، التاريخ يزودنا بدليل تعليمات ويساعدنا على تجنب تكرار الأخطاء الجسيمة، وبدون الاعتماد على التاريخ فالمستقبل سيكون أكثر ضبابية وقد يكون أكثر خطورة على مستقبل البشرية. القصص التحذيرية التي يرويها التاريخ ضرورية الآن، فالعالم في خضم تفكك النظام الدولي وبداية الانقسام بين شمال الكرة الأرضية وجنوبها والذي ظهر بشكل جلي بعد الصراع الكارثي بين روسياوأوكرانيا الذي أعاد الحروب إلى أوروبا، فهذه الحرب تتخذ من قلب العالم الحضاري موقعا لها، وهذا يعنى أن تآكل الحضارة الغربية قد بدأ، وهذا ما كرس المخاوف وأسهم في تكاثرها، فالتهديدات التي تواجه الاستقرار العالمي حقيقية وليست مزحة. يقول لنا التاريخ إنه قبل اندلاع الحرب العالمية الثانية عام 1939، كان الجيش الألماني قد شهد زيادة كبيرة في العدد والقوة بسبب ضم النمسا لألمانيا عام 1938، وانضمت الفرق والوحدات العسكرية النمساوية إلى الجيش الألماني مما رفع تعداد فرق الجيش الألماني، وهذا المثال لا يعنى الإشارة إلى أن ذات الحرب سوف تقع، ولكنه يفتح المجال لنا أن صراع القوة قد بدأت مؤشراته بين دول القوة في العالم والتحالفات بدأت تتشكل وإلا لماذا كان الجيش الصيني حاضرا بكامل قوته وعرض المعدات العسكرية المتطورة بما في ذلك أجهزة الليزر للدفاع الجوي للاستخدام البري والبحري والطائرات المقاتلة الشبح والقاذفات القادرة على حمل رؤوس نووية، والصواريخ المضادة للسفن، وأحدث صاروخ باليستي عابر للقارات وأحدث الطائرات الصينية بدون طيار. يمكن قراءة ما حدث في الصين أنه رسالة تلفت النظر على المستوى الدولي، وقد تكون رسالة تحدّ مباشر إلى أميركا وحلفائها، مع أن حلفاء أميركا آخذين بالتراجع؛ ولكن الحقيقة التاريخية هنا تقول إن هناك مزيدا من الأدلة التي تثبت أن التحول يتزايد، حيث ترغب دول جنوب العالم وبشكل متزايد الابتعاد عن النظام العالمي الذي تهيمن عليه الولاياتالمتحدة والغرب المتفكك بسبب حرب أوكرانيا بجانب سلوك الرئيس ترمب الذي يعمل على سحب أميركا، أو لنقل تجريدها من العديد من أدوارها التاريخية، فترمب وعبر سياسة الرسوم الجمركية أصبح يزعزع العلاقات الاقتصادية بين دول العالم، وهذه مؤشرات مهمة لقراءة التاريخ ومن ثم توقع النتيجة وفق حسابات تاريخية صارمة. العالم يتغير ولا يجب علينا في العالم العربي انتظار النتيجة فقط، فالشرق الأوسط يمتلك القدرة على لعب دور بارز، فالعملية السياسية ليست رهانا على أميركا أو الصين، العملية مستقبل الكون والنظام العالمي الذي يتشكل أمامنا، ففي عالمنا العربي لا بد من ملاحظة شديدة لما يحدث وخاصة مع التحول الجيوسياسي للصين الذي ظهر جليا في احتفالها، ولكن هذا لا يعني أن نفس المسار الذي حدث بعد الحرب العالمية الثانية سوف يتكرر؛ ولكنه يشير إلى أن الماضي مهم وخاصة في دراسة الأخطاء. لا توجد هناك صيغة واحدة لتكرار التاريخ أو تكرار حدوثه، ولكن توجد حقيقة مهمة أن التغير والتحول هو سنة الكون بغض النظر عن الطريقة التي يحدث بها ذلك التغير، فعبر تاريخ العالم خلال الخمسة قرون الماضية أثبت التاريخ أن صناعة التحول العالمي تصنع معها دولا وقيادات جديدة تسهم في تحقيق الإنجازات، وهذه الفرصة متاحة لدولنا كي تستثمر في التاريخ لصناعة مكانتها المستقلة؛ ليس عبر إعلان التحالفات، ولكن من خلال الالتزام المستقل واستثمار المنتجات السياسية الاقتصادية للعالم كله شماله وجنوبه بلا استثناء، ففترة صناعة النظام العالمي بغض النظر عن صراعاتها هي الفرصة الوحيدة لصناعة الدول التي يلتزم التاريخ دائماً بتقديمها للعالم كدول قوية وفاعلة في النظام العالمي.