تشتبك تعريفات "الاستشراق" مع عدة خطوط، منها: خطّ زمني يهتم بالبداية والنهاية، وخطّ موضوعي يهتم بالموضوعات المطروقة، وخطّ تصنيفي بحسب الخلفية الجغرافية للمتحدث عن الإسلام والشرق من غير أهله (وما توشيهيكو عن هذا ببعيد)، وهي تصنيفات لاحقة بعد تبلور هذا الحقل المعرفيّ، فلا بدّ من معرفة كيف تبلور حتى نتحقق من مدى صحة وسلامة التعريفات. ولرضوان السيّد خط يفصل الاستشراق في منطلقه عن عمومية صلات الشرق بالغرب (وإن كان لا ينفي الجذور التي ورث منها الاستشراق من لاهوت وغيره)؛ لا كما عدّ بعضهم الاستشراق هو بداية التعرّف المسيحي على الإسلام، في أوروبا الكاثوليكية تحديداً، وفق وجه ديني عدائي، أو وجه تبشيري من جهة، فهذه الجهود ما كانت "استشراقاً، لأن مقاصدها ما كانت معرفيّة، بل تبشيرية". ويردّ "رضوان السيّد" الاستشراق لحقبة ناهضة ضد التصوّر اللاهوتي للإسلام، الذي ظهر بعد تجاذبات الإنسانويين والبروتسانت مع التصورات الكنسيّة، وذلك في القرن الثامن عشر، بين تيارين كبيرين ظهرا في أوروبا، وهما: التيار الأول "الرومانطيقي" والذي نظر للشرق في وجدانيات، وتصورات معنويّة، وتجلّى تصوره بين المثقفين الأوروبيين عبر ترجمة "ألف ليلة وليلة"، وسحر الشرق، وكان له الفضل في إخراج "النظرة إلى الشرق" من دائرة الجدالات اللاهوتيّة. في حين التيار الثاني العلميّ الذي خرج مع موجات العلميّة والتجريبية، وهو "التاريخانيّة الأكاديمية"، والتي اهتمت أصالة ب "اليونان والرومان"، ومن ثمّ درس بعضهم الإسلام تحتها، دراسة تنظر إليه من مستخلصات ومخرجات مناهج التاريخانية في دراسة العالم القديم، وكان له أثره الكبير في إخراج "النظرة إلى الشرق" ومقولات اللاهوتيين عن الإسلام؛ من الوسيلة اللغويّة "اللغة العربيّة". ولأن هذا المجال انصبّت فيه عدة اهتمامات، فقد بات عسيراً اندماجه مع العلوم التاريخية، رغم استقدام مناهجه من هذا التخصص، لتجمع تفرعاته، وجهود العاملين فيه، ليصبح فيما بعد تخصصاً باسم "الاستشراق" (ليس من التاريخ، ولا اللاهوت، ولا العلوم السوسيولوجية الوضعية). وعند هذه النقطة لا بدّ من استصحاب آليّة الارتداد؛ إذ في اللاهوت يُردّ الإسلام في أصوله إلى اليهودية أو المسيحية، رد اقتباس وتحوير (وسيأتي توضيح الارتداد)، وفي التاريخانيّة يُردّ إما إلى مباحث المضامين وسؤال الأصالة بين الجديد الإسلامي أو التقليد الإسلامي للحضارة اليونانيّة، وكذا صلة اللغة العربية باللغات الساميّة؛ ذلك أن الفيلولوجية تدرس الأمم من خلال اللغة، وما ترسمه اللغة من ثقافات وسياقات أهلها. ولأن الرومانطيقية لم تكن ضمن الكنف العلميّ منهجياً؛ فقد بقي الخط مع التاريخانية. يقول السيد: "التاريخانيات الألمانية والهولندية والفرنسية، هي التي بلورت على مشارف القرن التاسع عشر المعالم الأولى للاستشراق بمعناه العلمي. وكان الهولندي توماس أربنيوس (1584-1624م) قد قام بتأليف كتابٍ في النحو العربي باللغة اللاتينية، ظلَّ معتمداً طوال حوالي القرنين، وازداد تأثيره في الألمان [عند ترجمته إلى الألمانية]". ومع ذلك فالخط اللاهوتي لم يغب، بل أعاد تشكيل نفسه من جديد، فعاد مع مستشرقين (تسمية من حيث التخصص في ذلك الوقت)، لهم خلفيّة لاهوتية، "كڤايل الألماني اليهودي، ذو الخلفية اللاهوتية، والمتأثر بالدراسات البروتستانتية في نقدها للعهد القديم"، فكتب عن حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وعن تاريخ نقديّ للقرآن. وهذا الأثر -من ڤايل- قد قوبل بالاحترام عند غير اللاهوتيين، غير أنّه فتح الباب لنظرة أضرت بسمعة الاستشراق العلميّة -بوصفه تخصصاً أكاديمياً-. فصارت الأسئلة الإشكالية حول الإسلام متشعبة، بعد تداخل هذه المجالات، بحثاً عن الإسلام في أصوله الدينية أمسيحية أم يهودية، والمعرفية أهيلينة أم هناك جديد ما؟ وقد أخذ أشهر المستشرقين في الدراسات القرآنية "نولدكه" عن ڤايل ذو الخلفية اللاهوتية، والدراسات الناقدة للعهد القديم، فأبقى تقسيم سور العهد المكي إلى ثلاثة: مبكرة فوسطى فمتأخرة، "وظلّ هذا التقسيم سائداً في دراسات الألمان عن القرآن حتى رودي پاريت في الستينات، وأنجليكا نويڤرت في الثمانينات والتسيعنات من القرن العشرين". فمن هذا الارتداد تعرّض "الاستشراق" لضربات عدّة، فضلاً عن تقاطع بعض مدارسه مع التوجهات الاستعمارية لأبناء تلك الدول. وهذا الخط التفصيلي للاستشراق، توضيح لحقل علمي أكاديمي قد شارف مرحلة نهايته بحسب رضوان السيد، كما سيأتي عن "أفول الاستشراق" بإذن الله تعالى.