لطالما ارتبط الزواج في مجتمعاتنا العربية بقصص الحب، والمشاعر العائلية، والتقاليد الراسخة، لكن اليوم، لم تعد هذه المقومات وحدها كافية لبناء شراكة طويلة الأمد، فالأرقام المتصاعدة لنسب الطلاق تفرض إعادة النظر في كيفية التعامل مع مؤسسة الزواج، فهل يكفي الاتكال على الميول العاطفية وحدها، دون استعداد حقيقي أو تخطيط واعٍ؟ الزواج ارتباط عاطفي ومشروع حياة بكل ما تحمله الكلمة من معنى، وكأي مشروع ناجح، لا بد له من تخطيط، واستعداد نفسي وعملي، ورؤية واضحة، التوافق بين الشريكين لا يُبنى فقط على الانجذاب، بل على الوعي بالذات، وفهم طبيعة الآخر، والقدرة على إدارة الاختلافات بحرص وتضحية. من هنا، يبدو إدراج برامج التأهيل الزواجي خطوة ضرورية لا تقل أهمية عن الفحص الطبي الإلزامي الذي يسبق الزواج، فالتأسيس الواعي يحمي من الانهيار المبكر. تخيلوا لو أن كل شاب وفتاة مقبلين على الزواج التحقا ببرنامج توعوي مكثف لمدة أسبوع، يشمل ورشاً في مهارات التواصل، وإدارة الخلافات، والتوازن المالي، وفهم التحديات اليومية للحياة الزوجية، تشير دراسات العلاج الأسري إلى أن مثل هذه البرامج تقلل احتمالات الطلاق بنسبة تصل إلى 30 % خلال السنوات الخمس الأولى، فالعلاقات لا تنهار غالباً بسبب غياب العواطف، بل نتيجة غياب أسس ومبادئ التفاهم والتعامل مع الضغوط بمختلف أنواعها. تقارير متعددة تكشف أن أبرز أسباب الطلاق تعود إلى ضعف التواصل، وتدخلات الأهل، والزواج المبكر، والعنف الأسري، والضغوط الاقتصادية، والإدمان، وانعدام التكافؤ في فهم أدوار ومسؤوليات الحياة المشتركة، وتشير الإحصاءات إلى أن 65 ٪ من المطلقين تحدثوا عن "غياب الانسجام"، بينما تقع 30 ٪ من حالات الطلاق خلال السنة الأولى، هذه ليست مجرد أرقام، بل مؤشرات على هشاشة في التأسيس، لا على غياب المشاعر. كما أصبحت الفحوص الطبية الوراثية شرطاً لعقود النكاح، فمن المنطقي أن تشمل الفحوص الجوانب النفسية أو السلوكية التي قد تؤثر على استقرار الأسرة، هذه الإجراءات لا تنتهك الخصوصية، بل تحميها وتقي من أزمات مستقبلية قد تكون أكثر تكلفة نفسياً واجتماعياً. فالوقاية دائماً أسهل وأفضل من العلاج. في مواجهة هذا الواقع، تعمل جهات الاختصاص مشكورة على تطوير الأنظمة القانونية، وتوسيع نطاق مراكز الإصلاح الأسري، وتطبيق قوانين أحوال شخصية أكثر وعياً، إلى جانب السعي بإلزام المقبلين على الزواج بحضور دورات تأهيلية متخصصة. كما أن توفير الاستشارات الأسرية، والتأهيل النفسي والاجتماعي، وتعزيز التوعية في المدارس والجامعات، يمكن أن يسهم في خفض معدلات الطلاق بشكل ملموس. إن الأسرة المستقرة تنتج أجيالاً أكثر توازناً نفسياً، وأقل عرضة للعنف والانحراف، وحين نحصّن الزواج، فنحن لا نحمي فردين فقط، بل نبني مجتمعاً أكثر أمناً وسلاماً، ثقافة التأهيل قبل الزواج ضرورة ملحّة، العواطف هي المحرك، لكنها وحدها لا تكفي لتصمد أمام تحديات الواقع. العواطف والانجذاب المبكر قد يشعلان الشعلة، لكن الوعي هو ما يُبقيها مضيئة، ومع تصاعد تأثير شبكات التواصل الاجتماعي على حياة الأسر، بات من السهل أن تهتز العلاقات وتُبنى المقارنات الخادعة، مما قد يهدد استقرار الزواج ويُقوّض الانسجام بين الزوجين، فالزواج المستدام لا يحدث مصادفة، بل هو نتيجة وعي، واستعداد، وتفاهم عميق. إن إدخال برامج تأهيلية تجمع بين المعرفة النفسية، والمهارات الحياتية، والفحص المتكامل، هو استثمار طويل الأمد في استقرار الأسر وتماسك المجتمعات، فنحن نعيش في عالم تتطلب فيه العلاقات صيانة دائمة لا مجرد تأسيس جيد، فلتكن معرفتنا ركيزة، ووعينا سلاحاً لبناء زواج لا ينهار بسهولة. محمد بن مساعد العصيمي