قيمة الإنسان لا تحتاج إلى إثبات دائم ولا إلى مناشدة مستمرة، من يعرف حقيقتك سيقدرك دون أن تشرح، ومن لا يعرفها فلن يقنعه ألف تبرير. لذا فإن استنزاف طاقتك في إثبات ذاتك أمام كل عين عابرة، هو خيانة لجوهر وجودك. العظمة الحقيقية أن تعرف من أنت عند الله، لا ما يراه الناس عنك.. في خضمّ صخب الحياة، تتوالى علينا الأصوات التي تفرض علينا مسؤوليات لا تنتهي؛ اجتماعية وأخرى عاطفية، وثالثة نفسية، حتى نظن أن الحياة ما هي إلا سباق لإرضاء الجميع والوفاء بما يتوقعه الآخرون. غير أن الحقيقة العميقة تكمن في أن الإنسان ليس مسؤولًا عن كلما يُلقى على عاتقه، بل عن حدود معينة تشكّل جوهر وجوده، وتحدد مساره. منذ لحظة الوعي الأولى، يتعلم المرء أن الخطأ جزء من التجربة الإنسانية، وأن الهفوات زاد للنضج لا وصمة للعار، لكن الإشكالية تبدأ حين نحمّل أنفسنا ما لا طاقة لنا به، كأن نعيش نراقب زلات الآخرين، أو نُشعر أنفسنا بالذنب لأن فلانًا اختار الطريق الخاطئ رغم نصائحنا، الفلسفة الإنسانية والشرعية على السواء تؤكد أن المسؤولية لا تُبنى على ما لا تملك زمامه؛ فكل إنسان وُهب عقلًا وإرادة، وشُرّف بحرية يقرر بها مصيره. أكثر ما ينهك الروح هو السعي وراء استرضاء الناس جميعًا، فالقلوب أمواج متقلبة، وما يرضي أحدهم قد يستفز آخر، ومهما حاولت أن تكون لطيفًا ومثاليًا، ستجد من يعترضك بكره أو استهجان. وهنا يتجلى البعد الفلسفي: لا يمكنك أن تكون مرآة تعكس رغبات الآخرين جميعًا؛ لأن ذلك يذيب ذاتك ويقتل جوهرك. الحقيقة أن السعي إلى رضا الجميع وهمٌ، أما السعي إلى رضا الله فهو غاية سامية ثابتة، لا تتبدل ولا تتقلب، وهو وحده الضامن لطمأنينة القلب واستقامة الطريق. الحياة أوسع من أن تُختصر في محاولة إدارة خيارات غيرك، لكل إنسان تجربته الخاصة التي تعلّمه وتبنيه، والحديث النبوي الشريف يضع القاعدة الذهبية: «كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته»، لكن هذه المسؤولية لا تعني التدخل في تفاصيل حياة الآخرين، بل تعني النصح الصادق، والدعم الحكيم، ثم ترك مساحة للحرية التي تُعلّم أكثر مما تعلّم الأوامر. قيمة الإنسان لا تحتاج إلى إثبات دائم ولا إلى مناشدة مستمرة، من يعرف حقيقتك سيقدرك دون أن تشرح، ومن لا يعرفها فلن يقنعه ألف تبرير. لذا فإن استنزاف طاقتك في إثبات ذاتك أمام كل عين عابرة، هو خيانة لجوهر وجودك. العظمة الحقيقية أن تعرف من أنت عند الله، لا ما يراه الناس عنك. وفي خضم هذه المعادلة، تظهر إشكالية المزاج البشري المتقلّب؛ فمنهم من يُثني عليك اليوم ويسخط منك غدًا، لا لشيء إلا لأن طباعه تتبدل كما تتقلب الفصول، أن ترهق نفسك بمحاولة مسايرة مزاج الآخرين، يعني أنك سلّمت قياد حياتك لرياح لا تهدأ، إنما الحكمة أن تدرك أن استقرارك الداخلي أثمن من رضا المتقلبين، وأن استمداد السكينة من رضا الله أولى من مطاردة رضا بشر تتبدل قلوبهم. ولعل أخطر الأوهام التي يقع فيها الإنسان هي وهم المثالية؛ أن يسعى ليجعل كل شيء من حوله يسير بانسيابية تامة، وكأن العالم يجب أن يُدار وفق هندسة محكمة بلا عثرات. لكن سرّ الحياة في عثراتها وتجاربها، فهي التي تنحت الشخصية، وتصقل الوعي، وتزرع البصيرة. فدورك ليس أن تحمي الجميع من الخطأ، بل أن تكون شاهدًا صادقًا، مخلصًا لنفسك، متيقنًا أن كل تجربة -مهما بدت قاسية- هي التي تصنع النضج. ومن هنا تأتي الحكمة الأخيرة.. توقّف عن إهدار وقتك فيما لا تملك السيطرة عليه، لن تغيّر آراء الناس، ولن تُقنع كل أحد، ولن تستطيع أن تحكم أهواء الآخرين أو تحدد اختياراتهم. كل ما تملكه هو نفسك، وقتك، وطاقتك، وهي نعم عظيمة ستُسأل عنها. فما أجمل أن تُسخّرها في عبادة الله، وإعمار الأرض بما يرضيه، والسعي إلى الغاية العليا التي تسمو فوق كل رغبة بشرية: رضا الله. ويبقى القول: إن إدراك حدود المسؤولية ليس هروبًا من الواجب، بل هو عين الحكمة. الحكمة أن تعرف أن رضا الخالق يختصر لك طرق الحياة المتعرجة، وأنه البوصلة الوحيدة التي تمنحك سلامًا داخليًا لا يتأثر بمدح الناس أو ذمّهم. وما دمت تسير في طريق يرضي الله، فلست بحاجة إلى أن تثبت شيئًا لأحد حتى لو سخط.