يأتي الفن كجنوح وسمو عن مدارات المألوف، ومشاركة لطريقة تجربة الفنان للعالم، وامتداد لشخصيته، ونقل للمفاهيم والمقاصد وتحقيق التواصل والتأثير على الآخرين، ولغة للروح وانحياز فضولي لاكتشاف الجوهر المكتنز للمحيط، ووسيلة لفهم العالم حيث تتجلى أسرار الحياة وعالم المجتمع والتجربة الروحية، لتجسيد رحاب أكثر شمولا واتساعا تترجم وتفصح فيه عن المكنونات والمشاعر المتراكمة، وتطعيمها بتفاعل جسور مع التجارب الفنية العالمية للآخر، وقراءة الاتجاهات الفنية وبلورتها لتلمس نهجية تعبيرية وجمالية. وقد أثمرت المسيره البصرية في المملكة عن مبدعين، منهم الفنان "عبدالعزيز الناجم" الذي بزغ كفعل إبداعي متفرد، وتجربة ذات خصوصية أسلوبية وعمق مفهومي لفنان أصيل دائم البحث والتجريب أسس لحركة تجديدية تحديثية احتفت بصور المجتمع السعودي من البيئة الطبيعية والمعمارية بأسلوبية تنحاز للخيال والحرية بعيداً عن قيود الرتابة والنمطية، فالتعبير الفني لديه هو اللغة المباشرة للتعبير، لصالح صياغة تجريديات منبتة لا تقف عند حد شكلها الأصلي، بل تمتد لأغوار الحداثة والعصرانية وتحقق الهوية، عبر السباحة الأثيرية في اتجاه تفسير شرقي روحي بالتوق الإنساني لطبيعته وبيئته المحلية وتشخيص التصورات حول ذلك، بصبغ عناصره بالتعبير والطاقية والإنسانية. حيث تتسم أطروحاته الفنية بثلاثة خطوط (أولهما التزام بمنبع رئيس مختار، ظل منحازاً له في أغلب تجاربه الفنية، وهو انتماء الفنان إلى تيار مستلهمي البيئة المحلية، عبر تنوع أسلوبي استردف "الواقعية التسجيلية" في البدايات التي أنتجها المخزون الفني الواسع والرصيد الذي استنشقه من بيئته، ومع تطور الأداء التقني ارتكل الفنان لنهجية فنية تمزج الانطباعي والرمزي والتعبيري في تركيبة من بناءات دينامية حالمة تؤطر البناء الكلي للعمل أو المعزوفة أو القصيدة، وهو ما ساهمت فيه نشأته بقريته، وتوسعه في فضاء التراث العمراني لتلك المنطقة والواقع المحلي والتاريخي، في تكوينات مؤسسة على العناصر والإيحاءات المختلفة التي قوامها البيئة والمجتمع-وثانيهما حرصه إثارة وتحفيز وجدانية وإدراكية المتلقي من خلال صيغ تلتحف بالموروث وتجلياته، واكتساء أعماله بالزخرف والشرائط الشعبية والألوان المميزة له-وثالثهما تنظيمات تعبيرية فلسفية متصلة بعوالم الطفولة النقية). وفي أعماله الأثيرية تلمس "عبد العزيز الناجم" في بيئته ترياقا عصمه من التردي الأجوف في الاتجاهات الوافدة، وصياغة رؤية رصينة تهضم مفردات بيئته والموروث، كموسيقية من الغناء الشرقي ترتكل إلى إزالة الشوائب والزوائد وتجريد المنظور من واقعيته الجامدة والمحافظة على صيغته التراثية المرتبطة بالواقع المحلي والتاريخي، فجسد المعماريات الناصبة بتفصيلياتها مع نباتات وزخارف شعبية ذات هوية عبر أحجام متناوعة، وإضفاء الحركة والدينامية من خلال الأشكال وتراتيب المفردات وإحداث الحركة من خلال تتابعها وتمركزاتها، وتوزيعات الضوء، والشفافية اللونية التى يمارسها الفنان فى خلفيات أعماله، والتدرجات من القاتم إلى الفاتح مرورا بهارموني اللون، لتعزيز المنظومات الحركية، والتناغمات الموسيقية ذات التقاسيم المنسابة، في تشكيلاته التي سيطر عليها الطابع الهندسي البصري، والتي تصدر الروحانية ونورانية العمل وتعزيز رائحة العبق والتاريخ، وتوجيه ذلك في سمو فني لتأكيد المعاني. وحسب إشارات "كانط" بأن المبدع هو الذي يطرح أفكارا مستحدثة لا تحاكي الطبيعة والموجودات المحيطة وينطلق إبداعه من صبغ مفرداته بإحساسه وذاتيته، جاءت التجارب المعاصرة الواعية للفنان لتدلل على فهم مكين واستيعاب لبيئته المحيطة وعناصرها كمنبع روحي، وهضم القديم التراثي وإفرازه من جديد في لغة حداثية خاصة وقالب عصري ذو هوية يعكس (مدى تشبعه بالزخرف الشعبي المحلي وبألوانه وتكويناته- وتأثير البيئة المحلية كمحرض فني على مخيلة الفنان لاستخلاص أنساق بصرية ذات خطوط ورموز بصرية وشعبية معبأة بالقيم الفنية لتجسيد سمات وخصوصية تلك البيئة والواقع المحيط- ومهاراته في اختيار المواضيع ذات الأبعاد الفكرية مع المحافظة على نفس أسلوب التعامل مع اللون والخط والفراغ). ولأن الفنان قد مر بعدة مراحل تنامت حسب تقدمه في التجربة والخبرة الفنية، نجده في مرحلة أخرى تشبعت روحه بشفافية عالم الطفولة حيث سكنه ذلك المعنى من دراسة نفسية الطفل وتعبيراته الفنية، لتجسيد موضوعات لمرح وألعاب وزهور وأشجار وحب وسلام. ففي تجربة (حكايات سلام لطفولة) استعرض أجواء العودة للطفولة ونستولوجي الماضي، والذكريات حينما يكون السلام مساحة وملاذا، ابتدع الفنان "عبدالعزيز الناجم" لغة بصرية لمشاهد لحياة آمنة ذات تفرد تزاوج في هذا الفضاء بين (الطفولة والسلام) وتجمع بين (الأصالة والمعاصرة) في أسلوبية تستردف سمات التعبير الفني عند الأطفال، وتستنشق مخزون ذاكرة وخبرة وفرادة تعبيرية ذات مستويات أداء فاعلة، تسهم في إحياء المشاعر في داخل المتلقي، عبر تلخيص اختزالي وتنظيمات تعبيرية بغرض شحذ تأليفات فنية بنظرة ذات مرجعية فلسفية متصلة بعوالم الطفولة البريئة النقية، حيث انتقاء المفردات ومساحة الموضوع وتراتيب المخططات اللونية، والهندسة المتناغمة مع ألوانه وحركة فرشاته المنسابة في جرس موسيقي خلال مقطوعات سيمفونية ذات أبعاد هارمونية رشيقة شفافة تنم عن روح بلورية مرهفة لفنان ذي حس لديه أدواته وتفكيره. عوالم طفولية حالمة نقائية بريئة يمثل الأطفال فيها باقة جمال في لوحة الحياة، التي اصطبغت بدرجات لونية زاهية كما هي الحياة زاهية بالأمان، من خلال صياغات توشحت بالألفة والأمان واللعب والتسلية والمرح عبر استرسال يسجل لحظات انخراط الأطفال فى لعبهم، والأوقات المرحة التي يحلقون فيها في سعادة منفردين أو مع غيرهم من الرفقاء في دنيا البراءة والسلام، يضحكون ويلعبون ويلهون ويمرحون فيها الأطفال في بهجة وأمان وسلام دون خوف أو قلق فحينما يكون السلام يكون الفرح والسرور، حركة وحياة ونشاط داخل بيئتهم، وقيادة الدراجات ولعب مع طيور داجنة وفراشات محلقة ونجوم وشموس وحمامات السلام، ومظاهر شتى لأجواء الطفولة ذات الجمال التعبيري، المشبع بالسلام الذي يعم عندما يختفي الخوف، وتصوير الألعاب، وتمكين المشاعر والأحاسيس، والألوان الوضاءة باعتبارهما وسائل هامة داعمة تساعد على تأطير جوهر الظواهر والعناصر. *الأستاذ بقسم التصميمات البصرية والرقمية المساعد من أعمال عبدالعزيز الناجم