قد لا يدرك كثيرون أن رحلة علاج بزراعة الكبد في مستشفى الملك فيصل التخصصي كانت أكثر من مجرد نهاية لمعاناة صحية، بل مثّلت نقطة انطلاق لإنجاز طبي سعودي بارز، فالدراسة التي استندت إلى استخدام تقنية الروبوت في إجراء هذه الجراحة صُنفت ضمن قائمة أهم 10 أبحاث طبية مؤثرة عالمياً، وفق الجمعية الأمريكية لزراعة الأعضاء. ويكشف هذا التصنيف عن انتقال المملكة من الاعتماد على التقنية إلى المساهمة في تطويرها وصياغة مستقبلها. هذا التحول اللافت يندرج ضمن سياق رؤية المملكة 2030، التي تجاوزت مرحلة التخطيط النظري نحو خطوات عملية واضحة ونتائج ملموسة. ففي خبر نُشر بجريدة الرياض بتاريخ 14 أغسطس 2025 بعنوان: "بإنجازات بحثية وتصنيفات دولية... المملكة ترسّخ موقعها الريادي في الصحة العالمية"، تم إدراج سبعة مستشفيات سعودية ضمن قائمة "براند فاينانس" لأفضل 250 مستشفى على مستوى العالم. ويُعد هذا الحضور العالمي تأكيداً على أن المسار الصحي السعودي يسير بخطى واثقة نحو مصاف الدول المتقدمة. ومن أبرز ملامح هذا المسار اعتماد 16 مدينة سعودية ك"مدن صحية" وفق معايير منظمة الصحة العالمية. وتُعد جدةوالمدينةالمنورة أول مدينتين مليونيتين في الشرق الأوسط تطبقان أكثر من 80 معياراً دولياً في هذا المجال. ويتسع مفهوم "المدينة الصحية" ليشمل نمط حياة متكامل، يجعل الاهتمام بالصحة جزءاً أساسياً من الثقافة المجتمعية. الاستثمار المتنامي في البحث العلمي الطبي يقدّم اليوم ثماراً واضحة. فقد نشأت بيئة محفزة للكوادر الوطنية، مدعومة بسياسات فاعلة للابتكار. وأسهمت هذه الجهود في تحسين جودة الخدمات الصحية، وتقليص الاعتماد على العلاج في الخارج، بل وتحقيق مكانة متقدمة للمملكة كوجهة علاجية دولية في تخصصات طبية دقيقة. تَصدُّر سبعة مستشفيات سعودية للتصنيفات الدولية يعكس قدرتها على المنافسة بثقة في الساحة العالمية. ويعود هذا التميز إلى منظومة صحية متكاملة تضع الإنسان في قلب اهتماماتها، وتعزز قيم الجودة والكفاءة والمساءلة، إلى جانب شراكة ديناميكية بين القطاعين العام والخاص. من العمليات الدقيقة بتقنية الروبوت، إلى التميز في جراحات القلب، وفصل التوائم، وعلاج أمراض الكبد والسكري والأورام، وصولاً إلى الرعاية النفسية وطب الأطفال والأمراض المستعصية، تثبت المملكة حضورها الفاعل كمركز طبي ومعرفي، يُنتج الحلول ويُقدم الابتكار. قبل أعوام قليلة، لم يكن من السهل تخيل أن السعودية ستتحول إلى وجهة علاجية عالمية. أما اليوم، فقد بات هذا الطموح واقعاً ملموساً، يدل على أن الرؤية حين تتحول إلى فعل، تثمر إنجازات تتجاوز التوقعات. وفي الختام، فإن هذه الإنجازات الصحية لا تُقاس بالأرقام فحسب، بل بما أحدثته من أثر مباشر في حياة الناس، ودليل على تحوّل وطني شامل يعيد تعريف العلاقة بين المواطن والدولة في أحد أكثر المجالات حيوية. لقد اختارت المملكة أن تبني منظومة صحية على مستوى عالمي، وأثبتت أن التميّز في هذا المجال ليس أمنية مؤجلة، بل مسار مُتحقق بإرادة طموحة، وجهود مدروسة، ورؤية تتطلع دوماً إلى ما بعد حدود الممكن. أما المستقبل، فهو مساحة خصبة لإبداعات سعودية تُلهم العالم، وتجذب مرضاه إلى أرض تنبض بالكفاءة، وتحتضن أعقد الجراحات بثقة واقتدار. محمد بن مساعد العصيمي