رغم شيوع اتجاهات نصرة «التقدّم» في الغرب، المنطلقة من جدل عن مظنّة الحكمة أو الحقيقة، أفي الماضي السحيق، وما بعدها تطوّر لها، أم هي صيرورة أو خطية لم تكتمل؟ وقد تقدّمت الإشارة إلى ذلك الحراك في مقال «التقدم بين الحِراك والإيديولوجيا»؛ في إشكالية تولّد دلالات في السياق الغربي الحضاري، مع ضخامة إقليمه، وتعدد ثقافاته وألسنته، لكنه بالنسبة للمغاير موهم للوحدة. وهذه الإشكالية ربما نحّت جانباً إمكانية طرح استعادة الماضي القريب، الماضي المنبوذ من حِراك اعتناق فكرة «التقدّم»، وخصوصاً لدى المؤمنين بالتنوير، وهذا الماضي هو «القرون الوسطى». إذ سُوِّغَ -بحسب ما وصل إلينا- طرح استعادة الماضي ما قبل العصر الحديث، استعادة للمناهج العقلية، أو القانونية، أو شعب المعارف الإغريقية بشكل عام، مع نظرة قالية للعصور الوسطى. وفي هذا المقال إشارة لاستعادة الماضي القريب، المنبوذ خصوصاً عند التنويريين، فهي إشارة ل»استعادة القرون الوسطى»، من خلال حركة أدبيّة طغت في أوروبا الحديثة، لتشكيل خيال يستعيد القرون الوسطى، وفق صور أدبيّة. ظهرت الحركة «الرومانتيكية» -بحسب محمد هلال- بوصفها حركة أو مذهباً أدبيّاً، اتخذ كلمة «رومانتك» شعاراً، وهي كلمة مدلولها الاشتقاقي يعود إلى كلمة فرنسية قديمة (Roman=Romaunt) تدلّ على قصة من قصص المخاطرات شعراً أو نثراً، وانتقلت إلى الإنجليزية لتدل على «صفة» توصف بها قصص المخاطرات، أو ما يثير في النفس خصائصها ويتصل بها؛ وهذه الدلالة أبقت في الخيال ما يثير أو يدل على قصص وآثار ومناظر القرون الوسطى، والوصف بها أو النسبة إليها «Romantic». وتكثفت الدلالة لتعرّف بما يقابلها، ففي القرن الثامن عشر (1760م) استعملت لمقابلتها ب «الكلاسيكي» عند مؤرخي الأدب، وأول من قابل بينهما مقابلة تعارض هو «ويلهم شليجل»، وتأثرت به مدام دي ستال في فرنسا، وانتقلت إلى الألمانية للدلالة على ما يتصل بعالم الفروسية في العصور الوسطى. ألقت هذه الدلالة بظلالها على بعث الأدب الرومانتيكي؛ الساعي لإحياء العصور الوسطى في القصص التاريخية، وإعادة بعث الماضي، فصارت المخيّلة الأدبية الدالة على الفروسية، والمغامرات، والنبل، والمخاطر...؛ من القرون الوسطى محمولة في هذه الكلمة. فهناك تحقيب تاريخي يزيد تمييز هذه الدلالة بين عصرين «الكلاسيكي» (من القرن السابع عشر حتى القرن الثامن عشر، وعند بعض الدول الأوربية إلى القرن التاسع عشر)، و»عصر المذهب الرومانتيكي» فيما يليه، في منازعات بين الأدباء والفلاسفة، وقد استعملها «روسو» للدلالة على المناظر والأشخاص المذكرة بقصص العصور الوسطى، ومن ثم اتسع المعنى ليدل على المناظر الشعرية، والحوادث الخرافية، والقصص الأسطورية، دون قيد العصور الوسطى. فاستعادة الماضي كان خيال المذهب الذي حركته صور خيال الفروسية، والجموح، والثورات، والجماليات، ونقض العادات والتقاليد، والرحمة حتى بالمجرمين، وتجميل الضعف الإنسانيّ، وتغليب قداسة الفرد ومشاعره...؛ في القرون الوسطى، ومقابلها «العصر الكلاسيكي» الذي قطعهم عن القرون الوسطى، وهو زمن العقل، ومنع الهوى، والاعتدال، والثواب والعقاب في صرامة دون الرحمة العامة، وتكريس الواقع وطبقيّته، والحفاظ على العادات والتقاليد، والبحث عن الحقيقة، وذروة الأدب ممثلة بأدب الرومان واليونان. أي أنّ دفّة «الحريّة» التي قيل إنها رافقت عصر الأنوار والتحرر من سلطة الكنيسة والإقطاعيات؛ دارت بحسب الحركة الرومانتيكية على الضد، فالعصر الكلاسيكي العقلاني هو عصر القيود، والحركة الرومانتيكية هي التحرر والجمال الإنسانيّ. فقصة الفكر الغربي التي تُحكى لنا في حقيقتها روايات قد تتعارض، بحسب الراوي، والعالم الحداثي الذي تحرّك بموجبات العقلنة؛ لا يُسمعُ صوت حكاية «الرومانتيكية»، في تحريكها لمنطلقات الفكر الأدبيّة والشعورية، لنزع وشاح البطولة عن حداثة العقل والأنوار، وإعادته إلى فروسية القرون الوسطى، ويستثنى ما كتبه «إيزايا برلين».