هناك مشاهد تبقى محفورة في الذاكرة الإنسانية، لأنها تكشف قسوة التاريخ وتفضح هشاشة الضمير البشري حين يلوذ بالصمت، فيلم The Pianist قدّم للعالم سيرة عازف بيانو بولندي يهودي وجد نفسه وحيدًا في وارسو المدمَّرة إبان الحرب العالمية الثانية، يتجوّل بين الأزقة، يبحث في القمامة عن كسرة خبز، يلتقط قشور البطاطا من الأرض، ويرتجف جوعًا قبل أن يرتعد بردًا وخوفًا، في مشاهد فجّرت الدموع من عيون الملايين. وبعيدًا عن ذاكرة السينما، اليوم يتجول في غزة الملايين من عازفي البيانو، وهناك، لا مشهد متقن الإضاءة ولا ممثل يؤدي دورًا، بل شعب كامل تُفرغ بطونه بفعل الحصار، وتُغتال الحياة من شوارعه بفعل القصف، والمشاهد كل يوم تتكرر: نساء ينبشن في أنقاض المطاحن بحثًا عن الدقيق، أطفال يتقاسمون وجبة لا تكفي أحدهم، وشيوخ يشربون ماءً ملوثًا لخداع أمعاء تصرخ طلبًا للقوت. في وارسو، كان الخبز أثمن من الذهب، وفي غزة، العثور على وجبة رفاهية مستحيلة، كلاهما عرف أن الطعام قد يتحول إلى رمز للبقاء، وأن لقمة العيش قد تصبح معركة يومية، وكما ارتكب النازي جريمة إنسانية بحق اليهود قبل ثمانين عامًا فيما عُرف بالهولوكوست، فإن إسرائيل اليوم ترتكب الجريمة ذاتها بحق الفلسطينيين في غزة، إذ حوّلت الحصار والقصف إلى أدوات لإبادة عرقية ممنهجة. فكما دمّر النازي بيوت وارسو وأحرق مخازنها ليجعل الجوع سلاحًا، يفعل الاحتلال الإسرائيلي الشيء ذاته في غزة: تدمير المخابز، إغلاق المعابر، منع وصول الغذاء، وتحويل الجوع إلى أداة إذلال أو موت. المفارقة المريرة أن مأساة اليهودي في وارسو حرّكت ضمير العالم، فخلّدتها السينما كدرس إنساني لا يُنسى، أما مأساة الفلسطيني في غزة، التي تشبهها في الجوع والحصار، فتُبثّ على الهواء مباشرة والعالم يكتفي بالمشاهدة! بالأمس، كان عازف البيانو يلامس الخبز كما لو كان قطعة من الحياة المسروقة، واليوم تمتد ملايين الأيادي الصغيرة في غزة نحو الطعام بالرجاء نفسه، لكن بلا وعود ولا عدسات تنقل المأساة كتحفة فنية، بل كخبر عابر يغرق في ضجيج السياسة، في حين تختبر الإنسانية اليوم في غزة كما اختُبرت بالأمس في وارسو، والجوع شاهد صامت على أن العالم لم يتعلم من مآسيه! العازف وهو يعبر بين أكوام من القتلى والدمار في مخيمات اليهود بوارسو طلحة الأنصاري