في فيلم الدراما التاريخية The pianist يطرح المخرج رومان بولانسكي قصة عازف البيانو اليهودي، الذي يتعرض هو وشعبه إلى القصف النازي أثناء الحرب العالمية الثانية. الفيلم يحكي قصة شاب يهودي بارع في عزف البيانو، لكن ذلك لا يعفيه هو وعائلته وشعبه من الخضوع لحكم الجيش الألماني الذي ساقهم إلى ملاجئ مكهربة ومن ثم إلى مواجهة الموت في مشاهد دموية عنيفة، ونهايات لا تفرّق بين الأطفال والنساء والعاجزين. عازف البيانو الذي شهد مصرع أهله وظل يكافح من أجل العيش، يلتقي بضابط ألماني في إحدى الأبنية الخربة والخاوية بفعل القصف والحرق، وفي اللحظة التي يتوقع فيها العازف أنه سيقتل لا محالة، يفاجأ بالضابط الألماني يطلب منه عزف قطعة موسيقية على البيانو الذي يغطيه التراب والرماد! العازف كث اللحية أشعث إثر تشرده وجوعه وهلعه ينصاع لأوامر الضابط الذي يبدو هادئاً على غير عادة النازيين، ويسترسل في عزف قطعة موسيقية لبيتهوفن مغمض العينين بانتظار الموت. وسط مشاهد الدمار والشوارع الفارغة إلا من الجثث وعواء الريح، يسمح الضابط للعازف بالهروب ويزوده بوجبة طعام، قبيل أن تصدر الأوامر بانسحاب الجيش الألماني ومن ضمنهم هذا الضابط الذي يُشاهد في نهاية الفيلم مأسورا مع آخرين ممن سيقادون إلى محاكمة دولية تحت مسمى تهمة مجرمي الحرب. عرض هذا الفيلم على مجموعة من الطلبة متعددي الجنسيات في إحدى الجامعات الأمريكية، صمت مهيب يغطي المسرح، صوت واحد فقط كان يردد بسخرية وحماس: Shoot him, yes.. كان هذا الصوت لشابّ سعودي لم يأبه لنظرات المتفرجين على المسرح، ولم تحمله على التوقف عن أكل البوب كورن، سئل لاحقاً عن مغزى ضحكته إثر المشهد الذي يُرمى فيه أحد المسنين هو وكرسيه المتحرك من أعلى البلكونة ليحط جثة مكسّرة وسط الشارع، فأجاب بأنه سعيد جداً لما حدث لليهود جزاء لتنكيلهم بالفلسطينيين. ترى ما الذي أوصل هذا الشاب إلى هذه المرحلة من التفكير؟ وما الذي أفقد المسلم نزعته الأولى نحو السلام والرحمة وتقديس النفس الإنسانية التي حرم الله؟ هذا الموقف يجعلنا نطرح سؤالاً بسيطاً، وهو: كيف يدرّس التاريخ في مناهجنا؟ ومن يصوغ أهدافه الإدراكية والوجدانية والسلوكية؟ من يختصره في صفحات تناسب تلامذة المدارس دون أن يصاب هذا الاختصار بحذف ركيزة أو إضافة رأي شخصي أو بلورة فكرة أو تهميش أمر مهم أو تضخيم حدث أو إسقاط آخر؟ التساؤل مطروح أمام كثير من مناهجنا، لكن المسألة حين تتعلق بالتاريخ فالأمر جداً مختلف، وبخاصة حين يدرّس لأمة اكتسبت الكثير من رفعتها وزهوها بسبب هذا التاريخ. إن إشكالية التاريخ ليست فقط في حساسيته التي يمكن أن تجعل منه مادة محرضة لصراع أزلي بين الأمم والشعوب، فلكل أمة تاريخها الحقيقي وتاريخها محل التدريس. هذه حقيقة أزلية يمكن الإقرار بها فقط في حال تخيلنا أن لائحة دولية جديدة أصدرت قراراً بتدريس منهج تاريخ موحد منذ بداية الخلافة على الأرض مروراً بالحضارات الكبرى كالإغريقية والرومانية ثم يترك لكل دولة أن تضيف فصلاً أخيراً تدرس فيه تاريخها الحديث نشأة وتطورا. ترى أي مأزق ستقع فيه كل دولة إن جسدنا هذا السؤال الافتراضي على أرض الواقع؟ والأكثر خطورة من ذلك هو أي مؤرخين ومن أي أمة يمكن اعتمادهم لهكذا مهمة أقل ما يقال عنها إنها صناعة تاريخ وليست تأريخ التاريخ؟! إن ما لدينا الآن من مناهج هي فهم تأويلي وتقريبي للتاريخ، فالمؤرخون يعيدون صياغة الوقائع وترتيبها زمنياً وربطها بوقائع أخرى أو التمهيد لمؤشراتها وعواملها وفقاً لمؤثرات كثيرة ليست حيادية في غالب الأمر، كالدين والعرق أو ربما محاباة لهوى نفوسهم أو رغبة إمبراطور أو زعيم! المؤرخون بشر في كل الأحوال. ومعضلة التاريخ الكبرى تكمن في أنه من المستحيل أن يعاد ليُرى كما كان عليه حقيقة، ليس كالجغرافيا مثلاً وهي ترسم الأرض التي لازلنا نعيش عليها إلى الآن، ولا كالنظريات العلمية التي يمكن إعادة تطبيقها والتأكد من مشاهداتها واستنتاجاتها المجرّبة، ولا كالمواد الدينية التي يُرد فيها الأمر أولاً وأخيراً إلى كتاب سماوي ورسالات نبوية. الشاب الذي كان يمارس طقوس الضحك في موقف يستدعي أكثر ما يستدعي الدموع على رخص الدم الإنساني، جاء نتيجة احتقان متراكم لما تغذيه بعض المناهج -الدراسية والاجتماعية والفكرية- في عقول أبنائنا من ثورة الدم العربي ضد كل ما يخالفه في أي شيء، المناهج التي أرادت صنع تاريخ يقتدى به في حمية العربي المسلم وغيرته على دينه ودم أخيه، هي المناهج ذاتها التي أفرزت جيلاً راح كثيرون منه ضحية الإرهاب باسم الجهاد والدين البريء منهم، وهي نفس المناهج التي خلقت هوة واسعة بيننا وبين الآخر الذي لا نعرف الكثير من تاريخه المشترك معنا. إن على المهتمين بتطوير المناهج والقائمين على تقويمها التفكير جدياً في نقطتين مهمتين، أولاهما: الابتعاد عن منهج البروباغوندا الذي يركز على نشر الشائعات المغلوطة عن ثقافةٍ ما وتكريسها بأسلوب التلقين التدريجي لتصبح حقيقة مسلمة. والثانية: هي التفكير جدياً في وسائل تعليمية جديدة فاعلة ومستقاة من أدوات العصر الرقمي، وبخاصة في تدريس مادة نظرية كالتاريخ، يمكن اقتراح الدراما التاريخية والأفلام الوثائقية مثلا كبديل فعلي أو عنصر مساعد لمدرّسي التاريخ الذين ينشغل معظمهم بحفظ التواريخ ورسم الخرائط على السبورة، وتلقين الوقائع دون التركيز على الهدف الأساسي من تدريس مادة حيوية كمادة التاريخ، وهو خلق عقلية متوازنة قادرة بذاتها على تحديد موقع الإنسان بوصفه أداة في خلق الحضارة، وليس بالضرورة أن تُطالب بمحاكمة حضارة أو أمة من الأمم.