انتشرت فكرة أن الصين هي التهديد الاستراتيجي الأول للولايات المتحدة منذ بدايات القرن الحادي والعشرين داخل دوائر صناعة القرار والفكر الاستراتيجي في واشنطن، ثم ترسخت الفكرة بصورة أكبر لدى الحزبين السياسيين ووجهت التفكير الاستراتيجي في وزارتي الخارجية والدفاع والبيت الأبيض، وأسس مجلس النواب لجنة لدراسة الأنشطة الشريرة للحزب الشيوعي الحاكم في الصين. كما ينتقد الرئيس الأميركي دونالد ترمب الممارسات التجارية للصين ويهدد بفرض رسوم جمركية انتقامية على المنتجات الصينية. ومن أبرز القضايا التي فرضت نفسها على معركة الانتخابات الرئاسية الأميركية في العام الماضي كانت عمليات الشراء المشبوهة من جانب الصينيين للأراضي الزراعية القريبة من منشآت عسكرية أميركية حساسة، وسبل وقف هذه العمليات. وفي تحليل نشرته مجلة ناشونال إنتريست الأميركية قال كولين كليري الأستاذ المساعد والمحاضر في السياسة الخارجية الأميركية بجامعة جورج واشنطن الأميركية إن الصين ليست الدولة التي يمكن الارتياح لحضورها على الصعيد الدولي، بل ويجب التصدي لها، لكن توجيه أغلبية الموارد الأميركية نحو بكين يُغفل أنشطة دولة أخرى عضو دائم في مجلس الأمن الدولي ويهدد قادتها وقنواتها الدعائية باستمرار بشن حرب نووية ضد الولاياتالمتحدة وحلفائها الأوروبيين؛ والذي غزا رئيسها الديكتاتور أراضي دولة أخرى معترف بها دوليًا وضمها أجزاء واسعة منها إلى بلاده وهي روسيا تحت قيادة فلاديمير بوتين التي يراها الخطر الاستراتيجي الرئيس على الولاياتالمتحدة. ويضيف كليري الذي عمل لمدة 30 عاما في وزارة الخارجية الأميركية أن الصين منافس ند للولايات المتحدة في مختلف المجالات العسكرية والاقتصادية والثقافية والتكنولوجية. لكن السلوك السيئ للصين على الصعيد الدولي لا يمكن أن يقارن بما تقوم به روسيا، التي يمارس قادتها بوضوح الابتزاز النووي. ففي حوار ذي دلالة وصف الرئيس الروسي السابق ونائب رئيس مجلس الأمن القومي الروسي حاليا، دميتري ميدفيديف، في 28 يوليو تهديد الرئيس ترمب بفرض عقوبات صارمة على روسيا إذا لم تتوصل إلى اتفاق لإنهاء الحرب مع أوكرانيا خلال فترة ما بين 10 و12 يومًا بأنه "تهديدٌ وخطوةٌ نحو الحرب"، وهدّد بالردّ النووي على التحركات الأميركية. لذلك فإن روسيا وليست الصين هي التي تمثل الخطر الأكبر على أمن الولاياتالمتحدة، وبالتالي يجب أن يكون ردع نظام حكم بوتين واحتوائه هو أهم أولويات ترمب، في حين أن استراتيجية الأمن القومي الأميركي في عهد الرئيس السابق جو بايدن ثم في عهد ترمب وضعت الصين على رأس قائمة تهديدات الأمن القومي الأميركي وهو تقدير خطأ تماما. وقد أبدى ميدفيديف أكثر من مرة ترحيبه بفكرة توجيه ضربات نووية إلى دول حلف شمال الأطلسي (ناتو) ردا على دعمها العسكري لأوكرانيا في مواجهة الغزو الروسي. كما دعا إلى تدمير أوكرانيا، في الوقت الذي يمتلئ فيه التلفزيون الحكومي الروسي بمحللين يدعون إلى استخدام السلاح النووي وغيره من الأعمال المدمرة ضد أوكرانيا ودول الناتو. ويشعر ترمب، عن حق، بقلق بالغ إزاء احتمال تحول حرب روسيا في أوكرانيا إلى حرب عالمية ثالثة - وهو ما عبّر عنه مرارًا خلال حملته الانتخابية، واعتبره مبررا لانتخابه. لكن ينبغي توجيه قلق ترمب، وهو في محله، في المقام الأول نحو الطرف الذي شنّ العدوان ويُهدد بلا هوادة بحرب نووية، بدلًا من انتقاد الضحية التي صمدّت ببسالة في وجه الهجوم لثلاث سنوات ونصف والضغط عليها لتقديم تنازلات للدولة المعتدية بحسب كليري. ويقال أن الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي يوافق على دعوة ترمب إلى وقف كامل وفوري لإطلاق النار. وبموافقته تلك، قبل زيلينسكي بالتنازل الفعلي عن نحو خمس أراضي بلاده لصالح روسيا، مقابل سلام دائم. في المقابل فإن بوتين وحلفاءه يتحدثون باستمرار عن رغبتهم في تدمير أوكرانيا تماما، ولا يبدون اهتماما كبيرا بجهود ترمب المستمرة لتحقيق السلام. لذا، ينبغي أن تُركز استراتيجية الأمن القومي للولايات المتحدة على روسيا، لا الصين، باعتبارها التهديد الأبرز. فبوتين يمارس حاليا أعمالًا إرهابية على نطاق واسع. في حين أن الصين، رغم عيوبها العديدة، لا تُمارس مثل هذه الأعمال. إن التصدي بقوة لبوتين في أوكرانيا ومنعه من تحقيق اهدافه غير المشروعة سيضمن ردع نظيره الصيني شي جين بينغ من التفكير في محاولة ضم تايوان إلى بلاده بالقوة المسلحة. لذلك من غير المعقول أن يُدير المهووسون بالتهديد الصيني في واشنطن ظهورهم لأوكرانيا، في حين أن أفضل طريقة لردع أي خطر صيني استراتيجي محتمل يمكن أن تبدأ من التصدي لبوتين في أوكرانيا. في الوقت نفسه بات واضحا أن حرب روسيا على أوكرانيا لن تنتهي إلا عندما يقتنع بوتين بأنه لا يستطيع تحقيق هدفه المتمثل في تدمير أوكرانيا كدولة مستقلة. لذلك فإن تردد إدارة ترمب في دعم أوكرانيا يُشجع بوتين ويطيل أمد الحرب وليس العكس كما يتصور. كذلك فالمعروف، أن الرئيس الروسي يقدر القوة ويحتقر الضعف. وفي البداية ظن ترمب أن الدبلوماسية الشخصية، إلى جانب "صداقته" مع بوتين، ستُنهي الحرب، لكن الرئيس الروسي بتجاهله القاطع لدعوة ترمب لوقف إطلاق النار، أظهر رأيه في تلك الصداقة. لقد أحدث بوتين شرخا عميقًا في بنية الأمن الأوروبي والعالمي، يمتد إلى ما هو أبعد من أوكرانيا. في المقابل، فإن التحدي الذي تشكله الصين لمصالح الولاياتالمتحدة أقرب إلى مرض مزمن خطير - لا ينبغي تجاهله، لكن من الأفضل إدارته بهدوء على مر الزمن. أخيرا يقول كولين كليري الباحث الزميل في معهد دراسة الدبلوماسية بجامعة جورج تاون إن فلاديمير بوتين يعتبر عدوا واضحا للولايات المتحدة، وقد استخدم جميع أدوات القوة لتقويض الأمن القومي الأميركي وتهديد الوجود الفعلي للشعب الأميركي. لذا، تُشكل روسيا بوتين، وليست الصين بقيادة شي جين بينغ الخطر الأكثر إلحاحًا على الولاياتالمتحدة. وهذا يحتم على قادة الولاياتالمتحدة جعل التصدي لعدوانية بوتين الأولوية القصوى. وسيعزز النجاح في هذا الصدد قدرة أميركا على مواجهة التحديات متعددة القطاعات طويلة الأمد التي تفرضها الصين. كما أن هذا السيناريو هو أفضل أمل للحفاظ على "النظام الدولي القائم على القواعد" أو ما تبقى منه على حد قول المحلل الأميركي. 1