حين تقول فيروز.. يكفي الاسم ليكون وطناً لعشاق الموسيقى والصوت الذي لم تعكر صفوه ونقاءه أي شائبة .. فيروز التي استطاعت أن تكون لبنان الذي يُعرف بها وتُعرف به، وعند الآخر الذي يهوى الفن ويعشقه فقد كان يشفق من وضع لبنان القلق دوماً أن يطال هذا الإرث الموسيقى الذي أسعد العالم لسنوات وصنع أرشيفاً فنياً خالداً، وقد اختارت فيروز أن تبقى كأرزات لبنان صامدة على أرضه، لم تهاجر مع من هاجروا ولم تغرها الحياة خارج مسقط رأسها رغم الهدوء والراحة التي قد تمنحها، فبادلتها بيروت المحبة وتوجتها الملكة الأبدية، ووضعتها في منزلة لا يقاربها أحد، حتى حكام بيروت متغيرون مختلف عليهم إلا فيروز الوحيدة التي اتفق على محبتها لبنان والوحيدة التي لم يأخذ أحد مكانها. «ولبيروت من قلبي سلام « هذه بيروت التي تذكر فيروز فتذكر، منحها صوتُها السلامَ والحضور ومنحتها بيروت تاجها الملكي، وتغنى اللبنانيون بفيروز كنشيدهم الوطني، وقنعوا بظهورها النادر الذي ترصدوه بين فينة وأخرى كعرس بهيج وطاقة تمنحهم الفرح بطول عمر أيقونتهم، حتى في عزاء زياد الابن الحبيب اللدود لها، كان ظهورها هو الحدث الأهم لتمسح على روح كل لبناني بجمال حضورها رغم حزنها الذي غرس نصله في قلوب محبيها. في التصريحات الإعلامية لابنها زياد الرحباني والتي كانت تزعجها كان هناك بعض من حياتها التي حرصت أن تبقى تفاصيلها في طي الكتمان لتكون ذلك الصندوق الذهبي العصي عن الفتح، فبعد كل تصريح له كان هناك فراق مؤقت ثم مراوغة من الابن لترضى فيروز عنه وتعود المياه للنهر الكبير الذي لا يمكن أن ينضب. من خلال زياد كان عشاقها ينفذون من بعض الثقوب على أسرار ثمينة وعلى طبيعة علاقتها بعاصي الذي تبين أنه كان يغار عليها غيرة مجنونة وأن زياد الذي كبر قبل أوانه والذي استقل عن حياتهما وهو ابن الرابعة عشرة فهو خياره ليكون بعيداً عن دور المحكم بينهما. المقابلة اليتيمة معها أخبرت فيروز عن قصة جارها في بيت أهلها في زقاق البلاط على مقربة من قلب بيروت؛ الجار العاثر الحظ الذي كان يتذمر من تغريدها كل صباح لعله لم يعلم أن جارته ستكون جارة القمر سيدة الغناء العربي وأيقونة العالم، وقد تحول ذلك البيت إلى متحف يحكي عن طفولتها وعن المرايا التي كانت تغازل طلتها، والنوافذ التي كان يتسرب منها صوتها كجدائل نور وحب، وعن ركن المجلات التي كانت تحتفظ بها وعادت لتطلبها من الساكن الجديد الذي التقته كاميرات التلفزيون ليتحدث عن لقاءين بها وعن عودتها للبيت لتأخذ ما تبقى لها منه وترتشف مع والدته فنجاناً من القهوة بقيت ذكراه عبق المكان وذاكرته. حين يرحل فنان فهو يحدث نشازا في النوتة الموسيقية وخللا باللحن، ورحيل زياد خسارة للمشهد الفني ولسيدة الغناء. فيروز التي أطلت على جمهورها العريض في العالم في عزائه. زياد الذي لحن وألف لسيدة الغناء فيروز من أجمل أغانيها، كان لكل أغنية قصة وكان بعضها ذاكرة لحكاية ما بينهما، مثل كيفك انت؟ عم بيقولوا صار عندك ولاد؟ وأنا مفكرتك برات البلاد!! وكانت هذه كلمات فيروز في الحقيقة لزياد الذي التقته صدفة عند أحد أصدقائه بعد عودته من لندن التي غادر إليها ملتحقاً بحبيبته ثم لقاؤه صدفة بفيروز وعدم موافقتها على هذه الأغنية إلا بعد رجاء طويل من زياد، فكل ذلك يخبر عن العلاقة المتوترة التي كانت بين الفنان ووالدته وكانت هناك شهادات منه على هذا في لقاءاته التلفزيونية التي كانت تغضب تصريحاته فيها فيروز. رحل زياد وبقي فنه وظلال الحزن التي أطلت فيها محبوبتنا يوم وداعه الأخير، ورغم الجدل من بعضهم حول أن كانت فيروز سورية أو فلسطينية أو لبنانية وتزخر به محركات البحث على الإنترنت إلا أن لبنان هو الأم والوطن الذي انتسبت إليه وله رغم عالميتها. للموت ثقافة كما للحياة. والقديرون فقط هم من يبقون الهالة تحيط بهم رغم عثرات الحياة، وفيروز السر الأجمل الذي لا تهدأ فكرة الغوص في غموضه، وبرحيل زياد أغلقت النافذة الوحيدة التي كانت مفتوحة على أيقونة العصر.