تصارع صناعة البتروكيميائيات الأوروبية من أجل البقاء والصمود في ظل موجة من إغلاق المصانع بعد سنوات من الخسائر والتوسع السريع في الطاقة الإنتاجية العالمية بقيادة الصين. أدت تكاليف الإنتاج المرتفعة وتقادم المصانع، إلى معاناة المنتجين الأوروبيين، مما زاد من اعتماد المنطقة على واردات المواد الكيميائية الأولية مثل الإيثيلين والبروبيلين، وهي المواد الأساسية للبلاستيك والأدوية وعدد لا يحصى من السلع الصناعية. وقال جيم راتكليف، مؤسس شركة إنيوس، رابع أكبر منتج للكيميائيات في العالم: "بينما يبني بقية العالم أكثر من 20 وحدة تكسير جديدة، تتجه أوروبا نحو التدهور الصناعي دون وعي". وانتقد، إلى جانب قادة آخرين في الصناعة، غياب العمل السياسي. استجابت المفوضية الأوروبية هذا الشهر بتعهدٍ بدعم الإنتاج المحلي للمواد الكيميائية التي تُعتبر استراتيجية لصناعاتها، مثل الإيثيلين والبروبيلين. وتخطط لتوسيع نطاق المساعدات الحكومية لتحديث المصانع، وإلزام المناقصات العامة بإعطاء الأولوية للسلع المصنعة في أوروبا - على غرار تشريع الاتحاد الأوروبي لعام 2023 للمعادن. لكن قد يكون هذا القرار متأخرًا جدًا لتصحيح الضرر. وقال جوزيبي ريتشي، رئيس التحول الصناعي في مجموعة الطاقة الإيطالية إيني: "الأمر أشبه بالتواجد على متن سفينة تايتانيك - لا يمكنك البقاء في حالة إنكار. وعليك أن تبحث عن قارب نجاة". وأعلن ريتشي أن شركة فيرساليس الكيميائية التابعة لإيني، تكبدت خسائر تجاوزت 3 مليارات يورو (3.5 مليارات دولار) في السنوات الخمس الماضية، حيث أغلقت الشركة آخر محطتين للتكسير البخاري في إيطاليا، واستثمرت ملياري يورو في مصافي التكرير الحيوية وإعادة تدوير المواد الكيميائية. كما تُغلق أو تُراجع مجموعات عالمية أخرى، مثل داو، وإكسون موبيل، وتوتال إنرجيز، وشل أصولها الكيميائية الأوروبية. وتستهدف معظم عمليات الإغلاق المُخطط لها وحدات التكسير، وهي وحدات تُحوّل الهيدروكربونات إلى إيثيلين أو بروبيلين أو مواد كيميائية أولية أخرى. وأفادت وثيقة صادرة عن ثماني دول في الاتحاد الأوروبي بشأن البتروكيماويات في مارس، أن 50 ألف وظيفة قد تكون مُعرّضة للخطر بسبب الإغلاق المُحتمل لمزيد من وحدات التكسير في أوروبا بحلول عام 2035. بينما أبرمت شركة شيفرون صفقة استحواذها على شركة هيس بقيمة 55 مليار دولار يوم الجمعة، مما أتاح لشركة الطاقة العملاقة الوصول إلى أكبر اكتشاف نفطي منذ عقود. وتظل مصانع الاتحاد الأوروبي في معظمها صغيرة ومتوسطة الحجم، وتعمل بمعدل تشغيل متوسط أقل من 80%، وهو مستوى يُعتبر غير اقتصادي. ووفقًا لشركة وود ماكنزي الاستشارية، فإن ما يصل إلى 40% من طاقة إنتاج الإيثيلين في الاتحاد الأوروبي - والتي تبلغ 24.5 مليون طن متري - معرضة لخطر الإغلاق المرتفع أو المتوسط، بما في ذلك عمليات الإغلاق المُعلن عنها منذ أواخر عام 2024. وقال روبرت جيلفيلان، رئيس أسواق البلاستيك وإعادة التدوير في وود ماكنزي: "إن نسبة مصانع التكسير الأوروبية المعرضة للخطر أعلى بكثير من مثيلاتها في المناطق الأخرى". وبينما تستخدم المصانع الأوروبية القديمة النافثا كمادة خام، تستخدم الولاياتالمتحدة والشرق الأوسط مواد خام أرخص مثل الإيثان - وهو ناتج ثانوي للغاز الصخري. وستنمو طاقة إنتاج الإيثيلين في أمريكا الشمالية إلى 58 مليون طن متري بحلول عام 2030 من 54 مليون طن متري حاليًا، وفقًا لشركة إيه دي آي إنلتيكس الاستشارية. في غضون ذلك، ستضيف الصين 6.5% إلى طاقتها الإنتاجية من الإيثيلين سنويًا بين عامي 2025 و2030، حيث ستنتج ما يقرب من 87 مليون طن متري من الإيثيلين سنويًا، وفقًا لما صرّح به هوانغ ينغو، الرئيس التنفيذي للمركز الوطني الصيني لمعلومات المواد الكيميائية. يُمثّل هذا أكثر من ثلاثة أضعاف الطاقة الإنتاجية الحالية للاتحاد الأوروبي. كما يُنشئ المنتجون الصينيون مراكز إنتاج في جنوب شرق آسيا للتصدير إلى أوروبا وأمريكا الشمالية، متجاوزين بذلك ضرائب الكربون والتعريفات الجمركية الغربية على السلع المصنعة في الصين. وذكرت هيئات صناعة البتروكيميائيات في البلدين في تقاريرها الصادرة في مايو أن الشركات اليابانية والكورية الجنوبية، غير القادرة على المنافسة، أبقت معدلات الاستخدام منخفضة منذ عام 2023. ويواجه صانعو السياسات الأوروبيون الآن خيارًا صعبًا، إما التدخل بشكل حاسم أو مشاهدة العمود الفقري الكيميائي للقارة يتآكل. وفي وثيقتها الصادرة في مارس، دعت دول، منها فرنساوإيطاليا وإسبانيا، إلى إصدار "قانون المواد الكيميائية الحرجة"، حيث تُظهر أحدث بيانات الاتحاد الأوروبي أن المنطقة كانت مستوردًا صافيًا للإيثيلين والبروبيلين سنويًا في الفترة 2019-2023. وقال ستيفان سيجورني، مفوض الصناعة في الاتحاد الأوروبي، بأن بروكسل ستحدد الإمدادات الاستراتيجية ومواقع الإنتاج. وقال للصحفيين هذا الشهر: "أولًا وقبل كل شيء، يتعلق الأمر بالسيادة - الحفاظ على وحدات التكسير البخارية لدينا". لكن السيادة لها ثمن. فمعظم وحدات التكسير الأوروبية يزيد عمرها عن 40 عامًا، مقارنةً ب11 عامًا فقط في الصين، وفقًا لمحلل سيتي سيباستيان ساتز. وتبلغ تكلفة إنتاج الإيثيلين في أوروبا باستخدام النافثا 800 دولار للطن المتري، مقابل أقل من 400 دولار للطن المتري في الولاياتالمتحدة عند استخدام الإيثان، وحوالي 200 دولار للطن المتري في الشرق الأوسط عند استخدام الإيثان، وفقًا لما ذكرته شركة إيني في عرض تقديمي نُشر في مارس. في حين تراهن بعض الشركات بشدة على البقاء، حيث تقوم شركة إنيوس، التي تُشغّل أكثر منشآت البتروكيميائيات تطورًا في أوروبا، ومقرها كولونيا، ببناء وحدة تكسير إيثان بقيمة 4 مليارات يورو في أنتويرب - وهي أول وحدة تكسير جديدة في أوروبا منذ ما يقرب من 30 عامًا، بطاقة إنتاجية تبلغ 1.45 مليون طن متري سنويًا من الإيثيلين. يهدف المصنع، المقرر تشغيله في عام 2026، إلى منافسة الإنتاج الصيني وتلبية الطلب المحلي ببصمة كربونية أقل. في الشرق الأوسط، تُسهم عمليات الدمج في ظهور عمالقة عالميين جدد. وسيؤدي اندماج بقيمة 60 مليار دولار بين شركة بترول أبوظبي الوطنية (أدنوك)، وشركة أو ام في النمساوية، إلى تشكيل مجموعة بروج، رابع أكبر منتج للبولي أوليفينات في العالم. وتخطط الشركة لتصدير البوليمرات إلى أوروبا، مُنافسةً بذلك الشركات الأمريكية والآسيوية مباشرة. ويقول المحللون إن إنتاج البتروكيميائيات في أوروبا لن يختفي تمامًا، بل سيصبح حكرًا على عدد قليل من اللاعبين المهيمنين. وقال إنزو باجلييري، أستاذ العمليات والتكنولوجيا في كلية اس دس إيه، في ميلانو: "لن تستمر في إنتاج الإيثيلين سوى الشركات الأوروبية الكبرى التي تتمتع بحصة سوقية تُمكّنها من تحديد أسعار تنافسية". وتُعيد موجة من إغلاقات وتصفية الأصول تشكيل قطاع البتروكيميائيات العالمي، حيث تُعيد الشركات حول العالم النظر في مدى انكشافها على الأسواق في ظل تكيفها مع زيادة الطاقة الإنتاجية في الصين وارتفاع التكاليف في أوروبا. يُعتبر الاتحاد الأوروبي الأكثر تضررًا من عملية الترشيد، بينما تُعتبر الولاياتالمتحدة والشرق الأوسط بمنأى نسبيًا عن هذه العملية. كما يُخفّض مُصنّعو البتروكيماويات في آسيا طاقتهم الإنتاجية، ولكن بوتيرة أبطأ مقارنةً بالاتحاد الأوروبي. وتضم قائمة ببعض عمليات الإغلاق الرئيسية وعمليات التخارج ومراجعة المحافظ الاستثمارية، شركة ليونديل باسل، ومقرها الولاياتالمتحدة، التي أعلنت في يونيو أنها بدأت محادثات حصرية لبيع أربعة مصانع للأوليفينات والبولي أوليفينات في أوروبا لشركة الاستثمار ايكويتا ومقرها ميونيخ. تقع المواقع المُراد بيعها في فرنسا وألمانيا وبريطانيا وإسبانيا. كما أعلنت الشركة أنها تُقيّم خياراتها لمصانعها في هولنداوإيطاليا. من جهتها، أعلنت شركة إكسون موبيل الأمريكية العملاقة للنفط، في العام الماضي، أنها ستغلق وحدة التكسير البخاري وستوقف إنتاج المواد الكيميائية في غرافينشون بفرنسا، مضيفة أن الموقع خسر أكثر من 500 مليون يورو (582.75 مليون دولار) منذ عام 2018، ولا يزال غير قادر على المنافسة. في نفس المنحى، أعلنت شركة بريتش بتروليوم، في فبراير أنها تبحث عن مشترين محتملين لمصفاة رور أويل، ووحدة التكسير، وأصولها في قطاع المصب في غيلسنكيرشن بألمانيا. فيما أبرمت شركة شيفرون صفقة استحواذها على شركة هيس بقيمة 55 مليار دولار يوم الجمعة، مما أتاح لشركة الطاقة العملاقة الوصول إلى أكبر اكتشاف نفطي منذ عقود. وأعلنت شركة توتال إنرجيز الفرنسية العملاقة للنفط في أبريل أنها ستغلق أقدم وحدة تكسير بخاري لديها في أنتويرب، بلجيكا، بحلول نهاية عام 2027، مشيرةً إلى "فائض كبير متوقع من الإيثيلين في أوروبا". بينما أعلنت شركة إينيوس، أكبر شركة تكرير نفط في اليابان، في فبراير أنها ستدرس إيقافًا جزئيًا لمنشأة إنتاج الإيثيلين في مصفاة كاواساكي التابعة لها بنهاية عام 2027 بسبب انخفاض الطلب. وفي مارس، أعلنت أنها ستوقف تدريجيًا إنتاج زيوت التشحيم وبعض المنتجات البترولية في مصنعها في يوكوهاما بالقرب من طوكيو بحلول مارس 2028، لكنها ستدرس نقل إنتاج زيوت التشحيم إلى منشآت أخرى.