هل جرّبت يومًا أن تُحادث نفسك بمحبة؟ لا ذلك الحديث الذي نُجريه ونحن نعدّل مظهرنا أمام المرآة، أو نراجع فيه قائمة المهام المتأخرة، بل حديث الروح للروح.. الذي يشبه الاعتراف الخافت في منتصف الليل. أن تنظر إلى عينيك، لا لتُحصي ما فقدته، بل لتهمس لها كما لو كنت تُحادث من تحب: "أنت بخير.. رغم كل شيء." نحن نُجيد الإصغاء للآخرين، نعرف كيف نربّت على أكتافهم حين ينهارون، ونُتقن تقديم العزاء والطمأنينة، لكننا ننسى أنفسنا في الزاوية، نتركها تنهار في صمت، ونكتفي منها بالصبر. نحن أول من يجلد ذاته بالكلمات، وأول من يقسو عليها إذا فشلت، وأول من يُحمّلها ما لا تطيق. نحاكم أنفسنا بلا رحمة، ونطلب منها أن تكون دومًا قوية، مثالية، متجاوزة، بينما في أعماقها ترتجف روح صغيرة، كل ما تحتاجه هو يد حانية، وصوت دافئ يقول: "أنا معك"، لا أحد يُجيد الحديث مع ذاته بمحبة، لأننا تعلّمنا أن نُخفي ضعفنا، أن نُكابر، أن نُظهر الصلابة حين تنكسر أضلعنا من الداخل. لكنّ ما لم نُدركه بعد، أن التحدّث مع الذات ليس ضعفًا، بل فعل شفاء. أن تجلس إلى نفسك وتُصغي لها بصدق هو أعمق أشكال القوة. أن تعترف لنفسك بالخوف والتعب والخذلان دون أن تُنكره أو تُهمّشه، هو وعيٌ ناضج لا يصله إلا الذين عبروا الألم دون أن يُنكروا إنسانيتهم. في داخل كل إنسان جزء خفي لا تراه العيون، جزء هشّ، ينتظر منّا لمسة دفء لا حُكمًا، انتظارًا لا تأنيبًا، حضنًا لا مقارنة. ذلك الجزء لا يحتاج إلى إجابات، ولا إلى حلول سريعة، بل إلى من يراه كما هو، دون تزييف. إلى من يقول له: "لستَ مضطرًا أن تكون كاملًا كي تستحق الحب"، وكم نحن بحاجة لهذه الجملة، نحن الذين اعتدنا أن نقيس قيمتنا بما أنجزنا، ونربط استحقاقنا للعاطفة بعدد المرات التي نجونا فيها دون أن نبكي، كم مرة كنتَ تحتاج أن يقول لك أحدهم: "أنا فخور بك، فقط لأنك تحاول"، ولم يفعل أحد؟ لماذا لا تقولها لنفسك الآن؟ لماذا تنتظر من الخارج ما تملكه في الداخل؟ كلّ لحظة سلام تهبها لنفسك تُنبت بها حديقة صغيرة في داخلك، كل مرّة تُربّت فيها على قلبك بدل أن تُوبّخه، تُرمّم بها شقوقًا لم يلحظها أحد، التحدث مع الذات ليس جنونًا كما يتصوّر البعض، بل هو فعل اعتراف، وشكل من أشكال الحنان المتبادل بينك وبينك. أن تقول لنفسك: "أنا أراك، بكل ما فيك، ولا أكرهك" هو بداية التصالح مع الحياة، لا بأس أن تتعب، لا بأس أن تتأخر، لا بأس أن تتوقف لتلتقط أنفاسك، المهم أن لا تخذل ذاتك في اللحظة التي تحتاجك فيها أكثر من أي وقت مضى. كن كما كنتَ تتمنّى لو كان لك أحد، كن ذلك الذي ينهض بك لا عليك، الذي يحتضنك لا يُعاتبك، الذي يُمسك بيدك ويقول: "لن أمضي.. سأبقى." لست بحاجة إلى أن تكون قويًا طوال الوقت، ولا أن تُبرر شعورك، ولا أن تخفي دمعك عن العالم. يكفيك أن تكون صادقًا مع نفسك، رحيمًا بها، وفيًا لصوتها العميق الذي لا يُجيد الكذب. وفي النهاية، حين ينسحب الجميع، وتغيب الكلمات، وتبرد الأكتاف، لا أحد يبقى معك كما تبقى أنت، لا أحد يسمعك كما تفعل، ولا أحد يعرف كم نجوت من أشياء لم تُحدّث بها أحدًا، فكن أنت المأوى، كن أنت الوطن، كُن لطيفًا مع ذاتك.. لأنها الوحيدة التي لن تخذلك أبدًا.