القهوة السعودية ذات تاريخ عريق ومحتد أصيل وتراث تليد فرضت وجودها منذ القدم في ثقافاتنا وعاداتنا وتقاليدنا وسلوكياتنا، يتم تقديمها في المناسبات العامة كالأفراح والأعياد والاستقبالات حيث تُعَدُّ تقليدًا عربيًا أصيلاً توارثته الأجيال جيلاً بعد جيل كرمز للحفاوة والضيافة وتعبير للتبجيل والتكريم، وقد يبدو شيء من التأمُّل والعجب في كيفية ابتكارها والوصول لإعدادها بعنصريها الرئيسين (البُنُّ والهيل) لتُعطي ذلك المذاق المُرَّ الذي هو في الواقع سر حلاوتها والانجذاب إليها والإقبال عليها والتعلق بها، هذا إذا أدركنا أن البُنَّ والهيل كلاهما ليسا من منتجات بلادنا ومحاصيلها الزراعية الأصيلة، وبخاصة أن الهيل ذاته الذي يأتينا من منشأه الأصلي (الهند) لا يُطحن لديهم كما نفعل نحن بل يضاف بحباته الأصلية الكاملة كتوابل إلى الأرز والأطعمة لتكسبها تميُّزًا في النكهة وطعمًا في المذاق ليس إلا إذْ لا يُؤكل مع الطعام كالزبيب والمكسرات مثلاً، فكيف إذن تم التفكير لدينا في طحنه وإضافته للقهوة ليكسبها ذلك الطعم المر المستساغ المقبول! وأيضًا كيف وصلت وأحرزت القهوة السعودية هذه الشعبية العريضة من قبل سكان هذه المملكة الواسعة الأرجاء المترامية الأطراف لتكون هي المشروب المفضل بل وعنوان الضيافة ورمز الكرم والحفاوة والتكريم لديهم. ولو تتبعنا تاريخها الأوَّلي وعراقتها الأصيلة لوجدنا أنه كان يتم إعدادها وتحضيرها أمام الضيف وتحت سمعه وبصره لتأخذ وقتًا طويلاً تمُرُّ من خلاله بمراحل وعمليات متتالية متعددة، إذ يبدأ المُضَيّف أولاً بتحميص البُنَّ في (المحماسة) ثم تبريده في المُبَرَّد (منسف صغير مصنوع من خصف النخل)، ثم طحنه في النجر (وفي بعض البلدان: الهاون أو المهباش)، ولرنين النجر عند المُضَيِّف نغمات وترنيمات ذات وقع جميل في النفس، لذلك فهو يتفنن في ضربه أفقيًا وعموديا وبين الشدة والرفق ليصدر عنه ذلك الرنين على نحو دقيق يحدث نغمًا متميزًا تنجذب له النفس ويطرب له السمع، ثم إضافته لتلك الدلة الكبيرة المعروفة لديهم آنذاك ب(الخَمْرَة) حتى تكاد تطيش رغوتها من فوهتها، بيد أن المُضَيّف الممارس المحنَّك يتابع تلك الرغوة ويراقبها ويتحكَّم فيها بحيث لا تفور وتطيش ومن ثم قد تُطفئ النار تحتها، ومن الطريف في الأمر أن ذلك المشهد قد تصوره قبلاً شاعر القصب الحكيم حميدان الشويعر حينما قال: النعمة خَمْرة جيَّاشة ما يملكها كود الوثقة ثم تُتْرك بعض الوقت ثم تُصفى من البن ثم تُزلُّ (أي تُسكب) في الدَّلَّة التي يضاف إليها عندئذٍ الهيل المطحون في النِّجر، ثم تُعاد مرة أخرى للغليان حتى تصبح حينئذٍ جاهزة للتناول. وكل هذه العمليات تترى أمام مرأى الضيف الذي يكون أثناءها منهمكًا في تبادل الحديث مع المُضَيّف وعيناه تتابعان هذه المراحل الشيّقة المتتابعة من بدايتها وحتى نهايتها منتظرًا بشوق وحرقة ولهفة متى تُقدَّم له من قبل المُضَيّف. وبالطبع فإن القهوة عادة قد لا تُتناول لوحدها بل يقدم معها التمر المعروف بحلاوته، ولعل طعم التمر (الحلو) حينما يلتقي مع طعم القهوة (المُر) يمتزج الطعمان (المُر والحلو) ليُكوّنا صنوين أليفين مثاليين متكاملين يزيدان من شعبيتها والولع بها. ولعل من المناسب هنا أن نذكر أبياتًا شعرية قالها شعراء في مدح القهوة ومجالسها المؤنسة التي لا تخلو من الأنس والإمتاع وطيب اللقاء والاجتماع بين الأحبة والرفاق، فهذا هو من أجمل ما قيل في مدح القهوة والإشادة بها في الشعر الشعبي وهو قول الشاعر الفارس راكان بن حثلين العجمي في هذين البيتين المعبرين: ياما حلا الفنجال مع سيحة البال في مجلس ما فيه نفس ثقيلة هذا ولد عم وهذا ولد خال وهذا رفيق ما لقينا مثيله فمن خلال هذين البيتين يتبدى ما يطمح له الشاعر ويرنو إليه حيث يرى أن لذة القهوة ومتعتها وطيب نكهتها وحلو مذاقها لا تكتمل البهجة معها إلا والذهن خال تمامًا عما يشغله والصدر فارغ مما يضيقه، ثم يذهب الشاعر إلى أبعد من ذلك ليتطلع أن تكون جلسته تلك عامرة بنخبة منتخبة من الرفاق والأصحاب والخلان الأحباء ما بين ابن عم وابن خال ورفيق قل أن يجد الإنسان مثيله. وبما أنه جرى ذكر التمر هنا فلا بد من ذكر رمز للهوية والعراقة وعنوان للمحتد والأرومة.. إنها النخلة، وما أدراك ما النخلة! النخلة التي كانت ولا تزال أنموذجًا مشرقًا للمظهر المتألق ونهرٍ جارٍ للعطاء المتدفق، لشجرة ثرية غنية تتسامى بطلعتها الفارهة وقامتها السامقة، أصلها ثابت وفرعها في السماء. لقد كانت النخلة لآبائنا وأجدادنا مصدرًا للرزق وسلة للغذاء وأمانًا منيعًا ضد المخمصة والجوع، يكفيها احتفاءً وشرفًا وفخرًا وتكريمًا وتألقًا أن بجَّلها رب العزة والجلال في محكم كتابه المجيد بإيماءات تحمل كل معاني التعظيم والتكريم والتفخيم: (وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ)، (فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ)، (فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ)، كذلك في قوله تعالى: (وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا)، بل ويضرب بها الرب تبارك وتعالى المثل في الطيب والأصالة بقوله عزَّ من قائل: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ)، كيف لا وهي بقوامها الشامخ وجريدها الباسق وعسبانها الوارفة وعذوقها الدانية وطلعها النضيد الشجرة المعطاءة السخية، فيها سمات الهويّة والأصالة ونضارة الحسن والبهاء التي كانت تمد آباءنا وأجدادنا ولا زالت تمدنا بغذائها الهنيء المريء الطيب السخي بألوانه المتباينة وأشكاله المتعددة الذي يدوم طوال العام منذ بدايته كرطب جنيٍّ إلى تمر شهيٍّ يؤكل في كل وقت وفي كل حين، لا يحتاج إلى أدوات حفظ أو وسائل تخزين أو أجهزة تبريد، وكفى ثمر التمر تكريمًا وتبجيلا أن أعتبر افتتاح الإفطار في رمضان ومن أطعمة الزكاة. كما أن التمر لم يخل من أحاديث نبوية شريفة لما روى مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: (بَيْتٌ لاَ تَمْرَ فِيهِ جِيَاعٌ أَهْلُهُ)، كما أخبر النبي الأكرم عن الفوائد الطبية للتمر، وخاصة عجوة المدينة واحتوائها على مضادات للسموم والأكسدة، فقال: (مَنِ اصْطَبَحَ بِسَبْعِ تَمَرَاتٍ عَجْوَةٍ لَمْ يَضُرَّهُ ذَلِكَ الْيَوْمَ سَمٌّ وَلاَ سِحْرٌ) [أخرجه البخاري]. ولا ننسى النوى أيضًا ودوره الكبير كغذاء للحيوان والدواب، كما ذُكِرَ أيضًا أنه يدخل في صناعات مستجدة ومنها صناعة الأدوية والعقاقير الطبية. كما ذُكرتِ النخلة في الشعر العربي حيث قال فيها أبو العلاء المعري: وردنا ماءَ دجلةَ خيرَ ماءٍ وزرنا أكرمَ الشجرِ النخيلا كما قال فيها أمير الشعراء أحمد شوقي: أَهذا هوَ النَخل مَلك الرِياضِ أَمير الحقولِ عَروس العِزب طَعام الفقيرِ وحَلوى الغنِيِ وَزاد المسافِرِ وَالمغترِب إذن نخلص من هذه «الفذلكة» إلى القول بأن القهوة والتمر صنوان أليفان ملتحمان عريقان لا يفترقان! * جامعة الملك سعود البن مذاق ونكهة أصيلان الاحتفاء بالضيف تقليد عربي قديم إعداد القهوة يمر بمراحل متتالية