كتب المؤرخ الأسترالي الشهير كريستوفر كلارك أستاذ التاريخ الأوربي الحديث في جامعة كامبردج مؤخرا للفورين بولسي مقالته التحليلية للأوضاع القائمة في أوروبا منذ استقلال النمسا عام 1945م حتى اليوم، وخلصت مقالته إلى النتيجة التي وردت في عنوانها: "نهاية الحداثة" ( The End of Modernity)( June 30, 2025)، وهو يقصد الحداثة الأوروبية. أخذ كلارك من هذا العام الذي احتفلت فيه أوروبا بالذكرى الثمانين لنهاية الحرب العالمية الثانية مدخلا لهذه المقالة. فقد شكّل إعلان استقلال النمسا في 27 أبريل 1945م خطوة مبكرة نحو الخروج من حقبة معينة في تاريخ أوروبا والدخول في حقبة جديدة. يقول كلارك: "عند النظر إلى هذه اللحظات من مسافة زمنية، قد تبدو وكأنها انتقالات سلسة وخالية من التوتر، مجرد نقاط على خط الزمن. غير أننا ننسى بسهولة كم كان المستقبل آنذاك مفتوحًا على جميع الاحتمالات، وكم كان السياق المعاصر مضطربًا وغير مؤكد"، لقد قسم كلارك هذه الثمانين عاما إلى حقبتين مختلفتين تمامًا. الحقبة الأولى، التي امتدت من نهاية الحرب العالمية الثانية حتى عامي 1989-1990م، وتميّزت -في أوروبا على الأقل- بفترة سلام مستدام. وقد دخل الغرب فيها مرحلة من الهدوء العام والنمو الاقتصادي، مدعومًا من الولاياتالمتحدة. لكن كل هذا بدأ يتغير مع نهاية الحرب الباردة. بدأ العصر الذي نعيش فيه -كما يراه كلارك- بداية جميلة، ويجب ألا ننسى ذلك. ففي عامي 1989-1990م، أدى تفكك الكتلة الشرقية إلى تحوّل عميق في البنية الجيوسياسية لأوروبا. ونشأت دولة ألمانية جديدة. (فألمانيا في عام 1990 لم تكن ببساطة "ألمانيا القديمة الموحدة" بل دولة جديدة تمامًا بحدود إقليمية جديدة). وكل هذا حدث دون اندلاع حرب -وهذا أمر استثنائي بحق. فقد تم تفكيك نظام أمني شرقي عمره 40 عامًا، وإنهاء المواجهة المسلحة بين الرأسمالية والشيوعية، وتأسيس دولة ألمانية جديدة دون إطلاق رصاصة واحدة. ما جاء بعد ذلك هو ما شكّل العالم الذي نعيش فيه اليوم: تفكك الاتحاد السوفيتي ذاتيًا، والانهيار الاقتصادي والاجتماعي في روسيا، حروب يوغوسلافيا، حربا الشيشان، هجمات 11 سبتمبر، حرب أفغانستان، حرب العراق وتبعاتها الطويلة، أزمة جورجيا، الأزمة المالية العالمية، أزمة أوكرانيا، الأزمة المالية في اليونان، وأخيرًا أزمة اللاجئين في أوروبا. يقول كلارك إن توقع الكثيرين في واشنطن وأماكن أخرى انهيار الصين بعد مذبحة ميدان تيانانمن عام 1989م كان خاطئا، فقد دخلت الصين في مرحلة من النمو الاقتصادي المذهل. يرى كلارك أننا بحاجة إلى التمييز بين فترتين مختلفتين منذ عام 1989م: الأولى يمكن أن نُطلق عليها "مرحلة ما بعد الحرب الباردة"، وامتدت من عام 1990م وحتى الفترة ما بين 2004 و2007م، وقد تميّزت هذه المرحلة في بدايتها بهَيمنة مطلقة للقوة الأميركية، حتى بدا العالم وكأنه يدور حول واشنطن. لكن هذه المرحلة انتهت كما يزعم - ومن أهم صور انتهائها ضم شبه جزيرة القرم وأجزاء من شرق أوكرانيا منذ عام 2014 م وغزوها الكامل في عام 2022 م من قبل روسيا. ويرى كلارك في هذه الحرب: "المظهر الأكثر وضوحاً لحرب أوسع نطاقاً ضد الغرب وضد أوروبا بشكل خاص". كل هذه التطورات أدت إلى تفكك الحداثة الأوروبية. ويختم كلارك مقالته بقوله: "ولكن اليوم، هناك دلائل متزايدة على أننا نواجه خياراً بين الديمقراطية الدستورية التعددية ومجموعة من البدائل الاستبدادية، مما يسمى بالديمقراطية غير الليبرالية إلى العنف المفتوح والحكم التعسفي. وفيما يتعلق بهذه المسألة الوجودية، فإن الحياد ليس خيارا".