«ليست الغاية من القراءة أن نملأ أذهاننا بالكتب، بل أن نحرّر عقولنا منها» -نيتشه-. في زمن تُقاس فيه العقول بعدد الأرفف، وتُقوَّم فيه الثقافات بعدد العناوين المتناثرة على جدران الرفوف، نعيش مفارقة موجعة، حضور طاغٍ للكتاب وغياب فادح للفكر. لم تعد المكتبة منزلًا للأفكار، بل استحالت لدى البعض إلى «ديكور فاخر»، وعنوان للتباهي أكثر من كونها معبرًا إلى العمق، لتُصوَّر المكتبات كما تُصوَّر المقتنيات الفاخرة، وتُستعرض العناوين كما تُستعرض «الماركات»، دون أن يرافقها أثرٌ يشي بأن العقل قد مرّ من هنا. إن من يمتلك مئات الكتب ولم تتغير مواقفه، ولم تتزحزح قناعاته، ولم يذق مرارة السؤال، فهو لم يقرأ بعد، بل مارس طقسًا شكليًا لا صلة له بجوهر المعرفة، فالمعرفة الحقّة هي من تُقلق اليقين، وتوقظ الحيرة، وتكسر جمود الرأي. القراءة التي لا توقظ العقل النقدي هي قراءة عمياء، هذا إذا تجاوزنا وأسميناها قراءة، والمكتبة التي لا تُربك ساكنها بأسئلتها ليست سوى سردابٍ بارد لا حياة فيه، فما أكثر الذين يقرؤون ليؤكدوا ما آمنوا به سلفًا لا ليتحرروا من أسره، وما أكثر الذين يزدادون تعصبًا كلما ازدادوا اطلاعًا لأنهم لم يقرؤوا إلا ما يوافقهم ويُرضي ذلك الامتداد. لعل أخطر ما تصنعه القراءة السطحية أنها تُعطي القارئ وهم الفهم، بينما هو لم يغادر عتبة العناوين، ولم يجرؤ على تفكيك ما بين السطور، ومن لم يُربِّ داخله حسًّا نقديًا، فستكون قراءته مراكمةً لا تراكمًا، وزينةً براقة سرعان ما يذهب حسنها في أول خطوات البحث والمعرفة، ولن تكون في يوم من الأيام زادًا يفي حقًا لمن استزاد به. تتكدّس الكتب، وتتناسل الأسماء، وتُحفظ المقولات، ولكن لا يُرى أثرٌ لذلك في الحوار، ولا في الكتابة، ولا في المواقف، وكأن العقل مشلول، عاجزٌ عن التفاعل مع ما يقرأ، أو كأن وظيفة المكتبة قد اختُزلت في صورة باهتة تُنشر على إحدى صفحات التواصل أو صورة للعرض. إن أول خطوة لاستعادة هيبة الكتاب أن نعيد تعريف القراءة ذاتها، فنقرأ لا لنعجب، بل لنجادل، ونمتنع عن الترديد، بل نلج إلى التساؤل، ونهمل الانبهار، ونستعيض بالفهم، ولعل هذا طريق أول كي يكون لكل فكرة نقرأها وزنها في سلوكنا، ووقعها في وعينا، وإضاءتها في ظلمات جهلنا. ختامًا، المكتبة التي لا تُغيّر صاحبها ليست مكتبة، بل متحف صامت.