في مشهد بات مألوفًا على وسائل التواصل الاجتماعي، تنتشر صورة دمية صغيرة ذات ملامح غريبة تُدعى "لابوبو" (Labubu) بين أيدي الشبان والفتيات، في صورهم اليومية، وعلى طاولات المقاهي، وحقائب اليد، وأغلفة الهواتف. ورغم أنها تبدو للوهلة الأولى مجرد دمية طفولية، إلا أن تأمل الظاهرة من منظور علم الاجتماع، وتحديدًا من خلال المدخل التفاعلي الرمزي، يكشف أنها تجاوزت كونها غرضًا ماديًا بسيطًا، لتتحوّل إلى رمز اجتماعي تفاعلي. فما نشهده هو سلوك جماعي رمزي معاصر، يتمثّل في اقتناء وتداول دمية تحمل دلالات ثقافية واجتماعية متداخلة، داخل فضاء شبابي رقمي يتفاعل مع الرموز أكثر مما يتفاعل مع الوقائع أو الوظائف المباشرة للأشياء. "لابوبو" لم تعد مجرد دمية، بل أصبحت وسيلة ناعمة للتعبير عن الذات والانتماء والتميّز، داخل شبكة من المعاني والتفاعلات اليومية التي تُعيد إنتاج رمزية الأشياء باستمرار. وعودة على المدخل التفاعلي الرمزي الذي يُعدّ من أبرز مداخل فهم السلوك الإنساني فإنه يرتكز على مبدأ جوهري: أن الإنسان لا يتفاعل مع الأشياء بناءً على طبيعتها المادية فقط، بل وفقًا للمعاني التي تُمنح لها داخل المجتمع، ومن خلال التفاعل مع الآخرين أي أن المعاني قبل الأشياء. بمعنى آخر، نحن لا نقتني الأشياء لأنها مفيدة أو جميلة فحسب، بل لأنها تُعبّر عنا، وتُظهر للآخرين من نكون، أو من نرغب أن نكون عليه. في ضوء ذلك، لا يُشترى "لابوبو" لأنه مجرد دمية، بل لأنه أصبح، بفعل الثقافة الرقمية، رمزًا اجتماعيًا مشتركًا، ووسيلة للتعبير عن الذات والانتماء لجماعة شبابية معولمة. هو علامة بصرية تقول ضمنًا: "أنا أفهم الترند"، "ذوقي مختلف"، أو ببساطة: "أنا أنتمي إلى هذا العالم الرقمي الجديد". إن ما حدث مع "لابوبو" يُشبه ما يحدث مع كثير من الرموز الاستهلاكية في الثقافة الرقمية المعاصرة مثل: لعبة سبنر (Spinner) في عام 2017: تبدأ كمنتج بسيط، ثم تتحوّل إلى وسيط بصري تواصلي، من خلال تفاعل المستخدمين حولها وإسقاطهم لمعانٍ شخصية وجماعية عليها. وال"لابوبو" من خلال انتشاره في صور "الستوري"، والمزاح حول شكله الغريب، وتكرار ظهوره في مشاهد يومية، جعل منه علامة مرئية تحمل ما هو أكثر من مجرد مظهر خارجي. وأصبح "لابوبو" يُشير إلى خفة ظل، أو تفرّد، أو حتى سخرية من الطفولة بطريقة واعية وعصرية. ومع كل تفاعل -صورة، تعليق، أو مشاركة- يُعاد إنتاج المعنى ويترسّخ الرمز. لم يعد الناس يتفاعلون مع الدمية نفسها، بل مع الشبكة الرمزية التي صارت تمثلها. قد لا يعبّر مقتنو "لابوبو" عن أفكارهم بشكل مباشر، لكنهم يفعلون ذلك عبر هذه الرموز الصغيرة. ففي عالم اليوم، لم يعد الاستهلاك مجرّد تلبية لحاجة، بل أصبح وسيلة ناعمة لتشكيل الهوية والتعبير عنها. فالمنتجات لم تعد محايدة، بل باتت تحمل دلالات اجتماعية وتبعث برسائل ضمنية عن الذوق والانتماء والموقع داخل الثقافة. إن من يقتني "لابوبو" لا يقول ببساطة "أحب هذه الدمية"، بل يُشير –وإن لم يقصد– إلى أمر أعمق: "أنا هنا، أنتمي، أرى ما يحدث، وأفهم رموز هذا الجيل... أنا داخل اللحظة." وكما قال أحدهم ذات مرة: (وأنا من تلك الأشياء الصغيرة...التي تملأ المكان وتقول أنا؛ أنا). في نهاية المطاف، تكشف لنا ظاهرة "لابوبو" عن شيء أعمق بكثير من مجرد دمية رائجة. إنها تبرز كيف أن الإنسان المعاصر بات يصنع رمزية جديدة من أبسط الأشياء، ويمنحها معاني تتجاوز شكلها أو وظيفتها. ففي عالم طغت عليه الصور والرموز، أصبحت ثقافة التفاعل الرقمي قادرة على تحويل أي غرض عادي -حتى دمية كرتونية– إلى وسيط اجتماعي رمزي يُستخدم للتعبير عن الانتماء، والذوق، والهوية. وهكذا، من المهم ألا نتعامل مع هذه الظواهر بالاستخفاف أو الأحكام السريعة، بل أن نحاول قراءتها من زوايا أعمق. فالدمية التي يحملها شاب في صورة على "سنابشات" قد لا تكون مجرد كائن طريف، بل ربما مرآة تعكس بعدًا نفسيًا يستحق تأملاً لا تهكُّمًا، وتفهمًا لا تشخيصًا. فقد تكون محاولة ناعمة لبناء هوية، أو تعبيرًا لا واعيًا عن الانتماء وسط عالم مزدحم بالصورة والتقليد الجماعي. وبما أن الإنسان لا يتفاعل مع الأشياء بناءً على طبيعتها، بل وفقًا للمعاني التي تُمنح لها اجتماعيًا، و"لابوبو" ليست استثناءً. عبدالرحمن الرويحلي