تمرّ منطقة الشرق الأوسط اليوم، بمرحلة تحوّلات إستراتيجيّة متدرجة قد تُعيد تشكيل خريطة التحالفات الإقليميّة وموازين القوى، في ظلّ تفاعل العديد من المعادلات داخل الإقليم وخارجه ما يوحي بأنها قد تفرض واقعًا جيوسياسيََا جديدًا. وتكشف المؤشرات الأوليّة للمواجهة السريعة الأخيرة بين إسرائيل وإيران عن تحوّلات جوهريّة في طبيعة الصراع الإقليمي، حيث يبدو الحضور الإيراني وعليه علامات تراجع قدراته المباشرة وغير المباشرة، في حين تواجه إسرائيل -على الرغم من تحقيقها نتائج ميدانية- انكشافًا إستراتيجيًا واضحًا، على الرغْم من التفوّق العسكري الواضح. وسيبني هذ التراجع الإيراني المتسارع في القدرات العسكريّة، مع انحسار نفوذ الوكلاء، ووضوح تأثير الأوضاع الاقتصاديّة، أُفقًا مسدودًا أمام طِهران. ثم أن البرنامَج النووي الإيراني، الذي كان يمثّل ركيزة أساسيّة في إستراتيجيّة الردع الإيرانيّة، يواجه تحديات كبرى إثر العمليّات العسكريّة المباشرة، واغتيال الخبراء، واستمرار تصاعد الضغوط الغربيّة، مما يضعف موقف طهران التفاوضي على الصعيدين الإقليمي والدولي. وفي هذا السياق، يبرز سؤال جوهري حول المسار الذي ستسلكه طِهران: هل تلجأ إلى مراجعة شاملة لسياساتها الخارجيّة، والتحوّل نحو نهجٍ أكثر اعتدالًا يركّز على الاستقرار الداخلي؟ أم أنّها ستعتمد خِيار التصعيد لضمان بقاء النظام، واستعادة الكرامة الوطنيّة، بما قد يؤدي إلى مزيد من العزلة الدوليّة، وتفاقم الأزمات الداخليّة؟ وهذا التراجع الإيراني ومعه الانكشاف الإسرائيلي سيخلقان فراغًا إستراتيجيًا في عدّة بؤر إقليميّة، ما يفتح الباب أمام قوى أخرى لملء هذا الفراغ، سواء من طريق تحالفات إقليميّة جديدة، أو عبر تعزيز النفوذ الدُّوَليّ في المنطقة. إذْ من المتوقّع في ظِلال هذه الأحداث أن تبرز قوى إقليميّة منتفعة من هذا التحوّل، خصوصًا تلك التي عملت على بناء تحالفات مرنة مع أطراف دوليّة متعدّدة. فالدول الإقليميّة المؤثرة التي تجنّبت الانخراط في صراعات محوريّة، واعتمدت سياسات خارجيّة متوازنة ستظهر الآن فاعلًا رئيسًا في المشهد الجديد. وهذا ما تشير إليه التحرّكات الدبلوماسيّة النشِطة لبعضها خلف الكواليس، وسباقها لإعادة ترتيب أوراقها، وتعزيز تموضعها الإستراتيجي في هذا السياق المتغير. على المستوى الدُّوَليّ تحاول الولايات المتّحدة اليوم، (وهي التي وقَفَت بقوة إلى جانب إسرائيل)، تحقيق توازنٍ دقيق في سياستها الإقليميّة. فهي من ناحية تريد الحفاظ على مصالحها الإستراتيجيّة، ومن ناحية أخرى تحرص على عدم إثارة اضطرابات واسعة قد تفتح الباب أمام نفوذ منافسيها. لكن التحدي الأكبر أمام واشنطن يتمثّل في توقّعات تصاعد النفوذ الصيني والروسي في المنطقة، حيث ستستغل هاتان القوتان فجوات السياسة الأميركيّة لتعزيز وجودهما عبر استثمارات اقتصاديّة وشراكات عسكريّة/أمنيّة. وهذا التنافس الجيوسياسي سيضيف بُعدًا جديدًا لصراعات المنطقة، وقد يؤدي إلى تحالفات غير تقليديّة تجمع بين الاعتبارات الاقتصاديّة والضرورات العسكريّة. أما على صعيد طبيعة الصراع المستقبلي، فيبدو أن المواجهة الإسرائيليّة-الإيرانيّة الخاطفة الأخيرة قد وضعت معايير جديدة للتعامل بين القوى الإقليميّة المتنافسة. فمن الواضح أن هناك تفاهمًا غير مكتوب على تجنب التصعيد المفتوح، واستهداف الأصول الحيويّة (Critical Assets)، أو استخدام أسلحة غير تقليديّة، مع التركيز بدلًا من ذلك على حروب خاطفة محدودة وحروب متقطّعة بالوكالة. وهذا النموذج، بالرغْم من أنه يحدّ من خطر الانفجار الشامل، فإنه يترك المنطقة في حالة من عدم اليقين الإستراتيجي (Strategic Certainty) حيث سيحُول اشتباك الأجندات الإقليميّة والدوليّة، والجذور الإيديولوجيّة لبعض هذه الصراعات دون الوصول إلى تسويات نهائيّة. مسارات قال ومضى في علم الحروب.. يُعطي صمت البنادق إشارة لحفر الخنادق.