ما علاقة فطر غريب في وادٍ ناءٍ، بنجاح عمليات زراعة الأعضاء؟ هذا بالضبط ما فعله اكتشاف مركب "السيكلوسبورين"، الذي أعاد أمل الحياة من جديد لمئات الآلاف من المرضى حول العالم، وغيّر مستقبل زراعة الأعضاء إلى الأبد. دعونا نعود إلى العام 1970م، حينما أطلقت شركة الأدوية السويسرية "ساندوس" (التي أصبحت لاحقاً جزءاً من نوفارتس)، حملة عالمية لجمع الكائنات الدقيقة من البيئات النائية، بهدف العثور على مضادات حيوية جديدة، وضمن هذه الحملة، توجه الباحث "هانس بيتر فري" إلى وادي "هاردانغر" في النرويج، حيث جمع عينات من تربة باردة وغنيّة بالفطريات، إحدى تلك العينات احتوت على فطر هوائي لم يُعرف سابقاً، أطلق عليه الاسم العلمي "توليبوكلاديوم إنفلاتوم"! نُقلت العينات إلى مختبرات الشركة في بازل السويسرية، وهناك نسجت خيوط القصة المثيرة، إذ عمل عالم الأحياء الدقيقة "جان فرانسوا بوريل" على تحليل تأثير هذا الفطر، الذي لم يُظهر نشاطاً مضاداً للبكتيريا كما كان متوقعاً، بل المفاجأة أنه ثبّط نشاط الخلايا التائية، وهي حجر الأساس في ردّ فعل الجهاز المناعي للجسم البشري تجاه زراعة الأجسام الغريبة عنه! كان هذا التأثير الغريب في نظر الكثير من العلماء، علامة خطر تشير إلى سمّية غير مرغوب فيها، لكن "بوريل" لم يكن مثلهم، فقد أدرك أن هذا التثبيط قد يكون المفتاح لمنع الجسم من رفض الأعضاء المزروعة، وهي العقبة الكبرى التي كانت تواجه زراعة الأعضاء آنذاك. بدأ الفريق بتجارب واسعة لتقييم فعالية المركّب الجديد، الذي حمل لاحقاً اسم: "السيكلوسبورين ألف"، إذ تبين في التجارب على الحيوانات أنه يستطيع تثبيط الرفض المناعي دون تدمير شامل للجهاز المناعي، وكانت النتائج مذهلة لدرجة أن المشروع انتقل بسرعة من المختبر إلى العيادات. في أوائل الثمانينات، دشن الجراح البريطاني "روي كالن" تجاربه السريرية بعد عملياته الرائدة في زراعة الأعضاء، ليكون النجاح حليفه، إذ ارتفعت نسب نجاح عمليات الزراعة إلى مستويات لم تُعهد من قبل، ثم في عام 1983 وافقت هيئة الغذاء والدواء الأميركية على تسجيل دواء "السيكلوسبورين" للاستخدام السريري، الخطوة التي ضاعفت عمليات زراعة الأعضاء، ورفعت معدلات نجاة المرضى. امتاز السيكلوسبورين بقدرته على تثبيط الخلايا التائية تحديدًا دون شلّ الجهاز المناعي بأكمله، ما يعني حماية العضو المزروع مع تقليل خطر العدوى، لكن مع ضرورة الانتباه لأثره على سميّة الكلي واحتمالية ارتفاع ضغط الدم، والحقيقة أنه لم يفتح الطريق واسعاً نحو زراعة الأعضاء فحسب، بل دشّن عهدا واسعاً في علم المناعة السريرية، إذ تبعته أدوية أكثر تطوراً مثل "تاكروليموس" و"ميكوفينولات موفيتيل" وغيرها. "السيكلوسبورين" لم يكن مجرد دواء حوّل زراعة الأعضاء من مجازفة يائسة إلى أمل واقعي؛ بل شاهدٌ على أن أعظم الاكتشافات قد تكون مهملة في أبسط الأماكن مثل التربة.