في غياهب الذّات حيث تتنامى الأسئلة وتضمحلّ الإجابات، يقبع "سجين العقل" ليس خلف قضبان الحديد، بل خلف أسوارٍ من مفاهيم معقّدة، وأنماطٍ شُيّدت ببطء من تصوّراتٍ مجرّدة، كأنها قلاعٌ من وهمٍ صلب. يُسجن هذا الإنسان لا لأنّ قوة قاهرة أرغمته، بل لأنّ العقل –الرفيق ذا السطوة– غدا سجّانًا. الأمر يشبه بُرجًا عاجيًّا شُيّد بيد صاحبه. ثم وقفَ على قمته يُحدّق عاليًا، قبل أن يُدرك بحسرةٍ أنّ السُّلّم الذي عرج به إلى أعاليه قد اختفى. هكذا وُلدت الحداثة.. إعلانٌ للوصول دون حفظ خط الرجعة. لم يلاحظ أنّه استبدل قيودًا بقيود عندما نحت الكون بمطرقة المقولات السببية، وجعل منها حبلاً يربط به الفوضى. وجعل من الزمن عبدًا لمعادلاته. وهكذا بدت الحداثة – بكل ما حملته من وعود التحرر والعقلانية – فلم تكن إلا انتقالًا من سجنٍ إلى آخر. على أنّ السجن ليس بدعًا في الخليقة، بل البدع أن ننسى أننا السجانون والسجناء في آنٍ معًا. فمن هيمنة الميتافيزيقا الكلاسيكيّة إلى سطوة المرجعية الداخلية؛ حيث القداسة للعقل وحده، العقل الذي نُصّب إلهًا صغيرًا يُصدر أحكامه باسم الذات. ولكن يا للمفارقة! حيث إنّ هذا الإله المنعزل لا يملك وحيًا، ولربما ارتاب من كلّ شيء، حتى من نفسه. لقد غدا العقل مركزًا لكلّ شيء في زمن الحداثة، ولكنّه أيضًا أصّلَ الشك، وكرّس العزلة، وحرّك القلق المعاصر. وفي عالم تتآكل فيه العلاقة بين الإنسان والمعنى. لم تعد الأسئلة الكبرى تُوجَّه إلى السماء، بل تُلفظ في صندوقٍ فارغ لا يكاد يُجيب. إنّه تِيه المرجعيّة! فالمرجعية لم تعد خارجية؛ ولم تعد الإله أو النص. بل غدت داخلية سجينةً هي الأخرى، وممتدّة من "الأنا" حتى تتقوّس على نفسها، فلا ترى غير ظلّها. وهو وإن بدا تحررًا في الظاهر، يظلّ في الجوهر سجنًا باردًا؛ لأنّ الذات حين يُنفى عنها كلّ عونٍ خارجي تتضخم حتى تختنق بنفسها، وتنكفئ على ضلالها. إنّ الأمر يُشبه أن تعيش في زنزانة مظلمة طيلة حياتك، ثم تتوقع أن تتصوّر طبيعة خلابةً بمروجها وأنهارها في الخارج. ويبقى سجين العقل هذا يدور في متاهة من أسئلة: ما الحقيقة؟ وهل يُمكن للعقل أن يعلو على ذاته ليحكم على نفسه؟ ومن أين تنبع القيم إن كانت كلّ مرجعية نابعة من داخلي؟ وكيف أصدّق أحكامي إن كنتُ أنا مَن يصوغ معيار التصديق؟ إنها حلقة مُفرغة تُجهد الفكر دون أن تبلّ الروح. أليست أعظم خديعة أن يبني سجينٌ جدران زنزانته ثم يرقص حرًّا في داخلها؟! وحتى من يدّعي القطيعة مع الغيب، فإنّه يظلّ يحمل في أعماقه توقًا إلى كينونة تتجاوز ذاته. فهو لا يتخلّص من الميتافيزيقا بإقصائها، بل يستبدلها بصيغة أخرى عندما يفترض عقله شيئا لا وجود له، وعندما يتنبّأ بنتائج في رحم الأيام المُقبلات، إنّها ماورائيّة بطريقة أخرى رتّبها العقل وجعل منها منهجًا. إنّ سجين العقل لا يحتاج إلى مفتاحٍ ليخرج من باب زنزانته. فكلّ ما يحتاجه هو لحظة إنصات إلى الصمت الذي يعلو أفكاره، ولحظة تصالحٍ مع ضعفه الإنساني، ولحظة اعتراف بأنّه ليس كُلّي القدرة ولا كُلّي الفهم، وأنّه يظلّ مُفتقرًا إلى مرجعية خارجيّة إلهيّة وليست مرجعية من نتاج عقله، بل تتجاوزه دون أن تُلغيه. فالعقل ليس كلّه شرًا محضًا، فنجد أنّ الله -سبحانه- يستحثّنا على إعماله فيقول: (لعلكم تعقلون) (وليتذكر أولو الألباب)، فهو -جلّ في علاه- منحنا العقل القاصر على القدر الذي يُمكننا من الوصول إليه، فأصبحنا في معترك مع حواسنا ليستحيل عجزُنا إيمانًا، وجهلنا معرفةً. ثم إنّه حجب عنّا الغيب لتعضيد هذا الإيمان؛ ولذا فإنه لو لم يكن غيبًا لما تطلّب الأمر إيمانًا. والجميل أنّ العقل لدينا نحن المسلمين جاء معضودًا بالنقل؛ لذا فإنّ بعض الفلسفات الغربية كالفلسفة المادية كما هو الحال لدى هيوم الذي يرى السبات الدوغمائي بإقصاء الروح والانكفاء على التجربة والخبرة، وكذلك شمولية هيغل التي ترى الكون المطلق أو العقل المطلق لم تنتهِ جميعها إلى شيء، وظلّت تراوح في بحث مستمر، بل وستظل كذلك إذا ما أدركنا أنّ العقل القاصر لن ينتهي إلى شيء. إنّ الخلاص لا يكون في هدم العقل، بل في تهذيبه، وفي الاعتراف بحدوده دون إنكار فضله. فالعقل وحده لا يكفي، والدواخل حينما تُطلق وحدها دون ضابط تتحوّل من مرجعٍ إلى متاهة. والحداثة إن لم تُروَّ بضوءٍ قدسي وراءها، فلن تُنجب إلا ضوءًا باهتًا في انعكاس مرآةٍ مكسورةٍ تُشوّه الحقيقة. إنّ العقل ليس سجنًا إلا إذا ألحفنا بأن لا نتجاوز حدوده. وما دام الإنسان يبحث عن المعنى، فسيظلّ باب الزنزانة مواربًا، وبانتظار أن يطرقه نور يتجاوز التفكير المجرّد، ويفتح على الذات نوافذ نحو المطلق. د. عبدالرؤوف الخوفي