في ساحات يُفترض أن تكون منارات للفكر والتعددية والانفتاح المعرفي، قد تتجلّى بعض الممارسات المُقلقة وبصمت. ومن بين هذه الممارسات "التحيّز للتخصص"، حيث يُنظر إلى بعض التخصصات على أنها أرقى أو أكثر نفعًا، بينما تُهمّش تخصصات أخرى وتُعامل كأنها ثانوية أو لا تستحق الدعم، بل يصل الحال لعدم القناعة بحالتها الوجودية في هياكل الجامعات. هذه النظرة ليست فقط ضارة من الناحية العلمية، بل تنطوي على تمييز بنيوي يُعيد إنتاج النخبوية داخل بيئة يُفترض بها أن تكون عادلة ومتوازنة، قائمة على احترام التنوع المعرفي لا اختزاله. هذا التحيز لا يقتصر على آراء فردية عابرة، بل قد يمتد إلى قرارات مؤسسية تمسّ صلب العمل الجامعي، فتؤثر على توزيع الموارد، وتخصيص التمويل البحثي، وعمليات التوظيف الأكاديمي، وحتى تمثيل الأقسام في المجالس واللجان. وفي كثير من الحالات، تُمنح امتيازات واسعة لتخصصات بعينها، وغالبًا ما تكون تلك المرتبطة بالمجالات الطبية أو التقنية، بينما تُقصى التخصصات الإنسانية والاجتماعية والتربوية، رغم ما لها من دور محوري في بناء الوعي، وصياغة السياسات العامة، وفهم سلوك الإنسان والمجتمع. والمؤسف أن بعض الأكاديميين ممن يتبوؤون مناصب مؤثرة، يروجون لأفكار تُقزّم من شأن تخصصات غيرهم، ويُغذّون لدى طلابهم وزملائهم قناعة بأن تخصصهم هو الأهم أو الأعلى شأنًا، متناسين أن التكامل بين المعارف هو ما يصنع التقدم الحقيقي، وأن كل علم يجيب عن سؤال مختلف من أسئلة الحياة، ولا يمكن لأي تخصص أن يدّعي الاكتفاء أو القدرة على النهوض بالمجتمع بمفرده. وقد يذهب البعض لتبرير هذا التحيز باعتباره "انتماءً طبيعيًا" أو "ولاءً وظيفيًا مشروعًا"، بل يصفه البعض بأنه مؤشر إيجابي على الاعتزاز بالتخصص. لكن هذه الرؤية في حقيقتها تمثل فكرًا مشوهًا؛ فالانتماء المهني البنّاء لا يكون بتجزئة الولاء المؤسسي وفقًا للتخصصات، بل بتحقيق انتماء مؤسسي شامل يرى الجامعة كمنظومة متكاملة يتكامل فيها كل تخصص مع الآخر، ويتقاطع معها في خدمة المعرفة والمجتمع معًا. والأخطر من ذلك أن بعض الجامعات قد تنجرّ وراء هذا المنطق الأحادي، فتوجّه الدعم والتمكين نحو تخصصات معينة، مما يُكرّس دورة مغلقة من التمكين الأحادي الذي يُقصي التخصصات الأخرى، ويُضعف حضورها الأكاديمي والبنيوي داخل المؤسسة الجامعية. إن هذا التحيز يفرز آثارًا سلبية عميقة. فهو يُضعف العدالة داخل الجامعة، ويخلق بيئة تنافسية غير متوازنة. كما يدفع بالعقول المتميزة في التخصصات المهمشة للانطواء أو الهجرة لخارج أسوار الجامعات أو إلى مجالات أخرى لا تمثل شغفها. والأخطر أن مثل هذه الممارسات تُعيق التقدم العلمي بسبب غياب التعاون البحثي بين التخصصات، ويشوّه وعي الطلاب بواقع المعرفة، مما يزرع فيهم شعورًا بالدونية أو التفوق الزائف تبعًا لمجال دراستهم. في جوهر هذه الأزمة، يكمن قصور في الفهم العام لوظيفة الجامعة. فالبعض لا يرى العلم إلا من نافذة تخصصه، ويتعامل مع المعرفة باعتبارها وسيلة لخدمة السوق أو تحقيق الجدارة التقنية فقط، متناسيًا أن التقدم لا يُصنع في المختبرات وحدها، بل كذلك في قاعات الفلسفة، وبين سطور الأدب، وفي تأملات علم الاجتماع، ومناقشات القيم والهوية والمواطنة. ما نحتاجه ليس فقط مراجعة سياسات التمكين والدعم، بل مراجعة شاملة للخطاب الجامعي نفسه. يجب أن تتبنى الجامعات رؤية متوازنة، قائمة على فكرة التكامل بين التخصصات لا تراتبيتها. ويجب أن تكون هناك سياسات واضحة لضمان عدالة التوزيع في التمويل والتمثيل الأكاديمي. لا بد من فتح نقاشات داخل الحرم الجامعي حول قيمة كل علم، وأثره في صناعة المجتمع، وإعادة الاعتبار للتخصصات التي طالها التهميش. الجامعة، في حقيقتها، ليست ساحة لتفوق تخصص على آخر، بل مساحة تكامل تشارك فيها العقول لبناء مجتمع أكثر وعيًا وتماسكًا. وفي زمن تتشابك فيه التحديات الكبرى – من صراعات الهوية والقيم وتغيرات المناخ، إلى طوفان الذكاء الاصطناعي وموجات الابتكار، مرورًا بأزمات الصحة النفسية والعدالة الاجتماعية – فإن عالم اليوم يتطلب تعاونًا علميًا يضع جميع التخصصات في موقع الشراكة لا التنافس، ويمنحها التقدير ذاته في منظومة معرفية متكاملة. وختامًا، فإن الجامعة التي تُقصي تخصصًا، إنما تُقصي جانبًا من مسؤوليتها المعرفية، وتُضعف قدرتها على مواكبة الواقع وصياغة المستقبل. والجامعة التي تنتقي المعرفة وفق معايير ضيقة، تخاطر بأن تكون جزءًا من المشكلة لا من الحل. *أستاذ جامعي – شقراء