يُعدّ الحج الركن الخامس من أركان الإسلام، أبرز العبادات الإسلامية التي تُجسد في شعائرها عمق التجرد من مظاهر الدنيا، غير أن ما يميز هذا الركن العظيم – إلى جانب قدسيته – هو أنه يُمثل واحدا من أكبر التجمعات البشرية في العالم، ملتقى يجتمع فيه المسلمون من شتى أنحاء الأرض، بمختلف لغاتهم وألوانهم وأعراقهم، تحت راية واحدة هي راية التوحيد. ومع كل موسم حج، تتحول المملكة العربية السعودية، وتحديدا مكةالمكرمة والمدينة المنورة، إلى مركز ثقافي وإنساني عالمي، حيث تتجلى مظاهر التنوع الثقافي الإسلامي في أبهى صوره، وفي موسم الحج لعام 2025، وفد إلى المملكة حجاجا لبيت الله الحرام من أكثر من 126 دولة، ما يؤكد مكانة هذا المشعر العظيم لدى مسلمي العالم. مما يجعل من المملكة العربية السعودية بوابة جامعة لكل شعوب العالم الإسلامي، ومركزا حضاريا لاستقبال ضيوف الرحمن وتيسير مناسكهم بروح من الكرم والتنظيم والاحترام المتبادل. ويمنح الحج فرصة فريدة لرؤية العالم الإسلامي الذي يضم ثقافات وقوميات وتجارب حياتية متنوعة. فالحجاج الذين يلبّون النداء يأتون من آسيا وإفريقيا وأوروبا والأمريكتين وأستراليا، ومن أقليات إسلامية في بلدان غير إسلامية، يحملون معهم عاداتهم وتقاليدهم وأزيائهم ولهجاتهم، ليخلق هذا التنوع نسيجيا رابطا وعابرا للحدود داخل الحرم المكي، حيث تذوب هذه الفوارق في وحدة الشعائر: الجميع يرتدي الإحرام ذاته، يطوف حول الكعبة في الاتجاه ذاته، ويدعو الله بلغة قلبه، إلا أن مشاهد الحياة خارج الشعائر، كالمخيمات، والمطابخ، والأسواق، ولقاءات الصلاة والحديث، تكشف حجم التنوع الثقافي الغني داخل الأمة الإسلامية. ولا يُعد الحج مجرد رحلة روحانية، بل هو أيضا تجربة تعليمية. إذ يطّلع الحاج خلال إقامته على ثقافات جديدة ويتفاعل مع أنماط تفكير وسلوكيات دينية واجتماعية متنوعة. كما تُنظم بعض البعثات الدينية والثقافية فعاليات جانبية ضمن المخيمات، تشمل ندوات تعريفية، دروسا دينية بلغات متعددة، ومساحات للحوار والتعارف. وعلى مدار الموسم، تُنتج وسائل الإعلام السعودية والعالمية تغطيات غنية تُسلّط الضوء على قصص الحجاج وتجاربهم، ما يعزز من سردية الحج كحدث ديني جامع، وتساهم هذه التغطيات في إيصال صورة إيجابية للعالم عن الإسلام، كدين عالمي يتسع للتعدد، ويُكرّس مبادئ السلام والمساواة. وتدرك المملكة تماما البعد العالمي والإنساني للحج، ولهذا فإنها تسخّر كافة إمكانياتها لتوفير بيئة آمنة، منظمة، وملائمة لاستقبال هذا التنوع البشري والثقافي الهائل، حيث قامت المملكة هذا العام، بصيانة وتجهيز أكثر من 5000 كيلومتر من الطرق المؤدية إلى المشاعر المقدسة، مع تركيب آلاف اللوحات الإرشادية بلغات متعددة. وتم توظيف التكنولوجيا الذكية، مثل الروبوتات التفاعلية التي تُقدم الإرشاد بلغات الحجاج، وأنظمة ذكاء اصطناعي لإدارة الحشود وضمان انسيابية الحركة. كما ساهمت المنصات الرقمية مثل «نسك» في إتاحة الفرصة لحجاج من أكثر من 126 دولة لتسجيل بياناتهم واختيار باقات الخدمات بلغاتهم المحلية، مما يعزز مبدأ العدالة والوصول للجميع. وقد توسّعت الشراكات مع شركات طيران عالمية لتسهيل تنقل الحجاج، فضلًا عن الجهود الضخمة في قطاع الصحة والأمن والإسكان. وبفضل ما توفره من بنية تحتية، وتنظيم محكم، ورؤية إنسانية عميقة، تُمثل المملكة نقطة التقاء فريدة بين الثقافات الإسلامية المختلفة. فهي لا تستضيف الحجاج فحسب، بل توفر لهم بيئة آمنة لتبادل التجارب، وغرس قيم التسامح والاحترام. الحج ليس مجرد موسم للعبادة، بل هو مناسبة سنوية لتجديد الروابط بين المسلمين حول العالم، وتكريس قيم الوحدة والتنوع في آنٍ معا. وتبقى المملكة بحكمتها وتخطيطها وحرصها، هي الحاضن لهذه الرحلة الروحانية والثقافية الكبرى. ففي كل عام، تُعيد تعريف ما تعنيه خدمة ضيوف الرحمن، لا كمهمة تنظيمية فحسب، بل كمشروع حضاري وإنساني يعكس الوجه المشرق للإسلام وتنوع أمته. ولا تكتمل أجواء موسم الحج دون الحديث عن عيد الأضحى المبارك، الذي يُعد امتدادا روحانياً لرحلة الحج وتجسيداً لذكرى خالدة من الإيمان بالله، وتنفيذا لسنة نبيه المصطفى، عبر أضحية النبي إبراهيم عليه السلام. ففي اليوم العاشر من ذي الحجة، يحتفل المسلمون حول العالم بعيد الأضحى، حيث تبدأ شعائر ذبح الأضاحي، وهو تقليد تعبّدي يُرمز به إلى الطاعة والخضوع لله، ويُعد كذلك مناسبة للتراحم والتكافل الاجتماعي. ويتميّز عيد الأضحى بخصوصيته الثقافية في كل بلد، حيث تختلف أنماط الاحتفال وتقاليد الطهي وتوزيع اللحوم، لكن القاسم المشترك هو الشعور بالفرحة والتضامن. ففي إندونيسيا، تُنظم طقوس الذبح أمام المساجد وتوزع اللحوم على الفقراء بطريقة منظمة. وفي المغرب، تُقام مواسم شعبية وأسواق خاصة قبل العيد بأيام. أما في باكستان وتركيا، فتمتزج الشعائر الدينية بالزينة والاحتفالات الاجتماعية. أما داخل المملكة، وتحديدا في مكةالمكرمة والمشاعر المقدسة، فتأخذ الأضحية طابعاً تنظيمياً متقدماً عبر مشروع المملكة للإفادة من الهدي والأضاحي، حيث يتم ذبح آلاف الأضاحي بطريقة شرعية وصحية، وتُوزع اللحوم على المحتاجين في أكثر من 30 دولة. وتوفّر الجهات المنظمة للحجاج خدمات متكاملة تمكنهم من أداء النُسك دون عناء، وتيسّر عليهم إتمام هذا الركن العظيم بما يتوافق مع شروط الشريعة وظروف العصر. إن عيد الأضحى لا يُمثل نهاية رحلة الحج فحسب، بل هو تتويج لرسالة التوحيد والتضامن والتكافل الإنساني، ورسالة واضحة بأن الإسلام دين رحمة، وشعائره لا تنفصل عن الواقع، بل تمتد لتشمل خدمة الإنسان في كل مكان.