في هذا الوقت من كل عام، تتجه أنظار المسلمين إلى حيث تهفو قلوبهم: إلى البيت العتيق، وموسم الطهر، وأيام الوقوف بين يدي الله. لا حدثَ يُشبه الحج، ولا زمن يُضاهي هيبته، ولا مشهد يُلامس الوجدان كما يفعل الطواف في سكينة، والوقوف في عرفات في لحظة تجرد وصدق. ولأن لهذا الركن الخامس مكانته في النفوس، فإن خدمته تستوجب قدرًا أعلى من المسؤولية، وقدرًا أعمق من الفهم. لا تُقاس هذه الخدمة بحجم التوسعة فحسب، ولا بمواسم التنظيم، بل تُقاس بمدى ما تمنحه من طمأنينة، وما تتركه من أثر، وما تعكسه من كفاءة وصدق أداء. لقد شهد الحرمان، في ظل الرعاية السعودية، ما لم يشهداه في قرونٍ طويلة: توسعة غير مسبوقة، وتنظيم بالغ الدقة، وابتكار يمس كل تفصيلة في رحلة الحاج، من المطار إلى المطاف، ومن منصة الحجز إلى خيمة منى. تطوراتٌ تضاهي -في سرعتها واتساعها- ما كانت تحققه الأزمنة السابقة في عقود، بل وسبقتها، فجعلت من أداء الشعيرة تجربة إيمانية تليق بالمكان، وتُعبّر عن استحقاق من يخدمه. وكل ذلك ليس مكرُمة تُمنّ، بل واجبٌ تؤديه الدولة، وترى فيه شرفًا لا يعلو عليه شرف. ورغم وجود أصواتٍ تتردّد من بعيد، تطالب تلميحًا بما لا يُطلب، وتُعيد نفسها كل عام كأنها صدى لا صدى له، إلا أن أثرها – إن كان لها أثر – لا يتجاوز دبيب النمل أو صراخ الخفافيش؛ كلاهما لا يُسمع، فأحدهما دون السمع، والآخر خارج نطاقه. وهكذا تمرّ، بلا وقع، ولا جدوى. إن خدمة الحرمين لا تُقاس بما يُقال حولها، بل بما يتحقق داخلها، وما يُقدَّم لضيوف الرحمن دون تمييز أو انتظار مقابل. ومع كل موسم، تثبت المملكة أن هذا الشرف لا يُنازع، لأنه لا يُمنح ولا يُشترى، بل يُكتسب بالصدق، ويُصان بالإخلاص، ويُورّث بالتاريخ. وما دامت مكة والمدينة في قلب العطاء، فإن الحج سيظل تجربة إيمانية نقيّة، تُدار بالكفاءة، وتُحتضن بالعناية، ويعود منها الحجاج وقد رأوا بأعينهم أن خدمة الحرمين في أيدٍ أمينة، لا تُفرّط، ولا تُقصّر، ولا تتعامل مع الضيف إلا بما يليق بمقامه ووجهته.