حينما تطالع بعض كتب طبقات الحنابلة التي ترجمت لهؤلاء من أصحاب المذهب الحنبلي في القرن التاسع والعاشر الهجري وما بعده، يمر بك علماء نجديون رحلوا من نجد إلى الشام لطلب العلم، فمثلاً كتاب (الجوهر المنضد في طبقات متأخري مذهب أحمد) لمؤلفه العالم الحنبلي يوسف بن عبدالهادي، وكتاب (النعت الأكمل) للغزي، وكتاب (السحب الوابلة على ضرائح الحنابلة) لمؤلفه ابن حميد في القرن التاسع وما بعده، وفي هذه الكتب سوف نقرأ عدة علماء من أهالي نجد كانت لهم رحلة علمية إلى الشام والعراق ومصر والأحساءومكةالمكرمةوالمدينةالمنورة، فمثلاً نطالع (الجوهر المنضد) نجد فضل بن عيسى النجدي، وهو من تلاميذ مؤلف هذا الكتاب ابن عبدالهادي، وتوفي 882ه، ورجل آخر من طلبة العلم اسمه قاسم النجدي جاء من نجد في حدود 890ه، وكذلك طالب علم نجدي اسمه رحمة النجدي، وهو من المعاصرين لابن عبد الهادي وقال عنه، ووُصف لي بعلم ببلاد نجد أنه قاض هناك، ولا ننسى العالم أحمد بن يحيي بن عطوة الذي رحل إلى الشام وهو من علماء نجد في القرن العاشر، والعلاّمة عثمان بن قايد، والأسماء ليست قليلة في الرحلة النجدية، فهي قبل دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب بعدة قرون. وشخصيتنا لهذا الأسبوع، رحّالة في طلب العلم، إذ أنه سافر إلى الرياض ثم إلى الأحساء ثم إلى الإمارات، ثم استقر به النوى في مصر، التي مكث فيها أربعة عقود دارسًا ومدرسًا وداعية، ألا وهو العالم عبدالله بن علي اليابس -رحمه الله-، والذي هاجر من بلاد القويعية واستقر في الأحساء ثم الامارات وقبلها في الرياض ومعه زميلاه العالم عبدالعزيز الراشد وعبدالله القصيمي وحصل الانسجام فيما بينهم والتوافق الروحي والائتلاف القلبي، وكانوا شبابًا أقوياء متحمسين لطلب العلم، يتوقدون ذكاء وحيوية ونشاط، أتوا لارتواء عطشهم العلمي ولإشباع جوعهم المعرفي. طلب العِلم وكتب الباحث المؤرخ عبدالله بن محمد اليابس -رحمه الله- كتابًا عن عمّه شخصيتنا -عبدالله بن علي اليابس-، صدر أولاً في كتاب قبل عشرين عاماً، ثم بعد ذلك أصدره في طبعه ثانية متوسعاً فيه، بحيث ضم الأعمال الكاملة لشخصيتنا، ويقع في مجلدين، وقد أهداه إليّ الكاتب والصحفي محمد بن عبدالله الهويمل، ثم تواصلت مع ابن المؤلف محمد بن عبدالله اليابس وأرسل بعض الصور لشخصيتنا، وأكرر شكري له على اهتمامه بنشر الموضوع ومتابعته. وبعدما تعلم عبدالله بن علي اليابس -رحمه الله- في بلدته رحل إلى الرياض، وتعلم وأفاد من مدرسة آل الشيخ، ثم رحل إلى الأحساء وتلقى العلم على يد قاضيها عبدالعزيز بن بشر ومعه زميليه عبدالعزيز الراشد وعبدالله القصيمي، ثم رحل إلى قطر ليتعلم بين يدي العالم محمد بن مانع، وكانت دراسته في الفقه الحنبلي، ثم ركب البحر قاصداً الشارقة التي كانت فيها المدرسة التيمية، فمكث فيها ودرس على آل محمود، وتعرف على طلبة علم كبار من أساتذة هذه المدرسة مثل العالم عبدالكريم البكري وهو من البكيرية من القصيم. رحلة شاقة ثم بعد مدة، عزم عبدالله بن علي اليابس -رحمه الله- على السفر إلى الهند، وكان هذا اتفاق بينه وبين صديقيه الراشد والقصيمي، اللذين سبقاه إلى الهند، وقد زارا الشارقة وتعلما في المدرسة التيمية، وهنا لنرى كيف سافر شخصيتنا إلى الهند والحديث في كتاب مجموع مؤلفات ومراسلات وأشعار عبدالله اليابس، يقول شخصيتنا عن هذه الرحلة: حينما وصلت إلى ميناء بومباي البحري، بعد هذه الرحلة الشاقة حاولت الخروج بجميع أغراضي من المركب الشراعي الذي نقلني من الشارقة إلى هذا الميناء، فقوبلت برفض من الحاكم الإنجليزي يمنعني من الدخول إلى بومباي وذلك لعدم وجود جواز سفر معي، وحاولت التفاهم معه بكل ما أقدر عليه لكن دون جدوى، وكان بجانب هذا الإنجليزي في تلك اللحظة ضابط هندي أخذ يتأملني، يرفع نظره تارة ويخفضه تارة أخرى، فقد استغرب وجود مثل هذا الرجل، أبيض البشرة ملابس غريبة لم ير مثلها من قبل، ولا يعرف أي لغة يتخاطب بها، فحَن عليّ وحزن لمنعي من الدخول، وأخذ يتكلم مع الرجل الإنجليزي بلغته، وحاول إقناعه بالسماح لي بالدخول إلى الهند، وعلى أساس أن هذا الوجه وجه خير، ووجه طيب، وليس عليه من أمارات السوء والمشاكل التي ممكن أن تبدو منه، وأخيراً سمح لي الإنجليزي بالدخول، بعد حوار طويل مع الضابط الهندي، ففرحت بذلك وأخذت أجمع حقائبي الحديدية، ووضعتها في مكان داخل الميناء، بعد أن أعطائي ورقة تجيز في الخروج من الميناء البحري بجميع حقائبي. روبيات هندية ويكمل عبدالله بن علي اليابس -رحمه الله-: عند ذلك عدت إلى الضابط الهندي لأشكره وأقدم له امتناني وتقديري على مساعدته لي، وحيث أنني لا أعرف لغته الهندية أو الإنجليزية فقد أخرجت مفكرتي وطلبت منه وضع اسمه وعنوانه لأحتفظ به ضمن أوراقي لأعود إليه حينما تدعو الحاجة إلى ذلك، وكان ذلك في أول 1341ه، ثم خرجت من الميناء وأنا أسأل نفسي أين أذهب؟، أين مدارس الحديث التي سمعت عنها؟، أين؟، وأين؟، فتوجهت إلى أحد المساجد القريبة من الميناء، فدخلته ومعي حقائبي الحديدية أحملها من مكان إلى آخر أحافظ عليها، وأتفقدها كلما خرجت من المسجد وعدت إليه مرة أخرى، فأخذت أصلي جميع الصلوات الخمس مع الجماعة، وقبل الصلاة وبعدها استند إلى إحدى سواري المسجد أقرأ القرآن أرفع صوتي تارة، وأخفضه تارة، وكان معي بقية من المال الذي زودني به الشيخ علي بن محمد آل محمود جزاه الله خيراً وجعل ذلك في موازين أعماله، وفي ذات يوم وأن أقرأ القرآن مستنداً على إحدى سواري المسجد إذا برجل فاضل يمر على ويضع في حجري مجموعة من الروبيات الهندية، ويذهب إلى سبيله من غير أن يكلمني أو يسألني عن حاجتي فقلت: لا إله إلاّ الله، الآن بدأ الخير، هذا رزق ساقه الله لي، لماذا أجلس في هذا المسجد؟، الآن يمكنني أن أذهب وأسأل عن دار أهل الحديث، فخرجت من المسجد تاركاً حقائبي وبها جميع كتبي واحتياجاتي، أودعتها الله الذي لا تضيع ودائعه، لا أخاف عليها ما دام الله ساق لي هذا الرزق، فهو متكفل بي وبحقائبي. عودة لمصر وتابع عبدالله بن علي اليابس -رحمه الله- قائلاً: بعد بضعة أيام سافرت من بومباي على القطار إلى عاصمة الهند التي توجد بها مدارس علم الحديث، وبعد وصولي سكنت في أحد الفنادق، وبدأت أبحث عن المدرسة التي سمعت عنها، في هذه الأثناء التقيت بكل من عبدالعزيز الراشد وعبدالله القصيمي، وهما يدرسان على عدد من المشايخ في دلهي، وقد أصيبا ببعض الأمراض المتفشية في هذه المدينة كما أنهما سئما من الجلوس ورغبا في المغادرة، وكانت وجهتهما مصر، والالتحاق بالأزهر، وبعد دراسة الموضوع فيما بيننا اتفقنا على الالتقاء مرة ثانية في مصر بعد أن سمعنا أن في الأزهر علماء كبار في جميع العلوم العربية والحديث مما قوى عزائمنا في السفر إلى مصر للالتحاق بالأزهر، وكان كل من الراشد والقصيمي قد أمضيا أكثر من ثلاث سنوات في دلهي وبعض المدن الأخرى، إلاّ أنهما عزما على السفر بعد وصولي بفترة يسيرة، وكانت وجهة سفرهما إلى البصرة ومن هناك على مركب شراعي أيضاً يتوجهان إلى القاهرة للالتحاق بالأزهر -انتهى كلامه-. مستفيد ودارس ودرس عبدالله بن علي اليابس -رحمه الله- في الهند، وأجيز من قبل عالم الحديث محمد بن عبدالرحمن المباركفوري، ففى علم الحديث بلوغ الكرام والمنتقى والصحيحين وموطأ الامام مالك وأطراف من السنن، وسنن الدرأمي والدارقطني ومقدمة ابن الصلاح، وفي النحو الفية بن مالك، وكان قد اتفق مع زميليه الراشد والقصيمي السفر إلى مصر إلى معقل العلم الأزهر بعدما بقيا في الهند أربع سنوات، سافر شخصيتنا عن طريق السفن ثم وصل مصر والتقى بهما هناك، وقد حط رحاله طويلاً في مصر طالباً ومتعلماً ومستفيداً ودارساً، فمنذ عام 1345ه تقريباً وهو في مصر لم يغادر نهائياً إلاّ قبل وفاته بقليل، أو زيارات للمملكة وباكستان والنمسا، إما حاجًا أو مجرد زيارات للرياض والقويعية، ودرس في الأزهر اللغة العربية والشعر والأدب، وكان يحضر بعض الحلقات العلمية مستمعاً، وكان الأزهر على النظام القديم نظام الشيخ يجلس وحوله طلبته يتحلقون عليه، ثم بعد ذلك جدّد الأزهر تعليمياً وأصبح جامعة الأزهر، ويتفرع من الجامعة كلية أصول الدين واللغة العربية، وقبل الكليات معاهد أزهرية منتشرة في المدن خارج القاهرة، فكان هذا إصلاح وتجديد هذه المنارة العلمية، وانتفع شخصيتنا من أساتذة الأزهر، خاصةً في اللغة العربية وفي فنونها المتعددة. ينصح ويرشد وعبدالله بن علي اليابس -رحمه الله- ممن عرف حق العلم وزكاته، وانتفع بهذا العلم الشرعي منذ أن طلبه في المملكة وفي رحلاته الخارجية، وفي استقراره بالأزهر، بدأ ينصح ويرشد من حوله بما أتاه من هذه العلوم، مع استعمال الحكمة في هذا التبليغ جاعلاً أمامه هذه الآية الكريمة هي منهاجه النصيحة: «ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن»، وقول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: «الدين النصيحة»، فكان أكبر همه وتفكيره هو النصيحة لكل مسلم في أرجاء مصر، وبالذات في القرى والأرياف، وكان تركيزه الدعوة إلى توحيد الله عز وجل، ونبذ البدع والخرافات التي جعلها الناس من الدين طوال هذه القرون وهي منافية له، وتراكمت عبر السنين الطوال، فكان يذهب إلى عمدة القرية ويلقي عليه بعض النصائح والإرشادات في مسائل التوحيد، فإذا اقتنع سمح له بالدعوة، ويطلب منه الحماية، وكان معه صديقه ورفيق دربه في طلب العلم العالم عبدالعزيز الراشد، فكانا يجولان في القرى، وقد نفع الله بدعوتهما، وكان لها المردود الايجابي المثمر، وكان معه مجموعة من الزملاء أمثال العلامة عبدالرزاق عفيفي، ومحمد علي عبدالرحيم، والعالم محمد خليل هراس شارح العقيدة الواسطية. ورع وتُقى وتحدث السفير أحمد بن علي آل مبارك عن عبدالله بن علي اليابس -رحمه الله- قائلاً: عندما توجهت إلى القاهرة بداية عام 1354ه كان لقائي بعد وصولي هناك مع الشيخ عبدالله بن علي بن يابس، فوجدت فيه الورع والتقى والحرص على أمور دينه، وعلى الصدق والاستقامة، وهداية الناس ما استطاع إلى ذلك سبيلاً. ويدلي محمد البنا -من أصدقاء شخصيتنا- قائلاً: الذي أعرفه عن الشيخ عبدالله بن علي اليابس أنه رجل صالح لطيف النفس غير متزلف لذوي جاه أو نفوذ، وكان يربأ بالعلم أن تنال به خطوة أو يسعى به إلى مرتبة، كما كان فصيح اللسان، ذا جواب حاضر. وقال مصطفى بدوي -أحد جيران الشيخ عبدالله بن علي بن يابس بالإسكندرية وتوفي عام 1422ه- (في مقابلة معه سابقة): إن الشيخ عبدالله بن علي بن يابس كان باراً رحيماً بجيرانه، فكان يزورهم في كل مناسبة، يسأل عنهم ويعود مريضهم، ويمشي في جنازة المتوفى منهم، كما كان يصلي بهم جميع الصلوات الخمس في المسجد القريب من بيوتهم، ويقرأ في صلاة الفجر آخر سورة النحل، كما أنه يقف عند بعض الآيات التي فيها ذكر الله، وحينما علمنا بسفره إلى الأراضي السعودية للعلاج أخذنا ندعوا له بالشفاء العاجل، وأن يعيده الله إلينا سالماً معافى، إلاّ أننا علمنا أخيراً بوفاته في شهر محرم من عام 1389ه، عن طريق ابنه علي، وقع هذا الخبر المحزن علينا وعلى جميع الجيران والمعارف والذين يصلون خلفه خلال السنوات الماضية كالصاعقة، ولا نملك إلاّ أن نقول: جزاه الله خيراً على ما قدم من نصائح وإرشادات للمسلمين وغفر الله له وأسكنه فسيح جناته وإنا لله وإنا إليه راجعون. وعكة صحية ولازال عبدالله بن علي اليابس -رحمه الله- يدعو إلى الله في مصر حتى اشتاق إلى الحج 1388ه، فسافر إلى مكة وأحرم بالحج، لكنه لم يقدر إتمام حجه، ثم سافر إلى الرياض، وسكن عند أحد أصدقائه وهو رجل الأعمال محمد الجميح، ثم أصيب بوعكة صحية شديدة، أُدخل على آثرها مستشفى الملك سعود بالرياض، ومكث عدة أيام، ثم توفي في يوم الجمعة، وصليت عليه صلاة الجنازة بعد صلاة العصر في جامع الإمام تركي، في شهر محرم عام 1389ه رحمه الله وغفر له على ما قدم من خدمة للعلم وطلبته وللدعوة، وقد قام الباحث عبدالله بن محمد اليابس بجهد كبير يُذكر ويُشكر في سيرة شخصيتنا، واستقصى معظم جوانب حياته، رحمه الله، وجعل هذا الجهد في موازين حسناته. عبدالله بن علي اليابس تنقل في حياته مُسافراً من أجل العِلم جواز سفر عبدالله اليابس الباحث عبدالله بن محمد اليابس ألّف كتاباً عن عبدالله بن علي اليابس السفير أحمد بن علي آل مبارك سافر عبدالله بن علي اليابس إلى الهند عن طريق البحر في رحلة شاقة إعداد- صلاح الزامل