في أواسط الأربعينات الهجرية من القرن المنصرم تقريباً شد الرحال شاب من قريته الصغيرة يطلق عليها "مفيجر" جنوب نجد، وهذه القرية هي شرق محافظة الحريق، خرج منها هذا الفتى الذي لم تكن قريته هذه تلك الواحة الصغيرة تلبي طموحه العلمي وهمته العالية، ومن تكن لديه همة عالية في أي مجال من مجالات الحياة يستسهل الصعب بل ويركب الصعاب، وكما قال الشاعر: ومن تكن العلياء همة نفسه فكل الذي يلقى إليه محببا هذا الفتى الشاب الطموح هو الشيخ العالم بل المفكر الإسلامي عبدالعزيز الراشد النجدي كما في بعض مؤلفاته، وقد اشتهر باسم عبدالعزيز الراشد والنجدي أحياناً، وهو عبدالعزيز بن راشد بن زيد آل حسين، ولد عام 1323ه أو قبلها بسنه في بلدته "المفيجر" التي تقع بين "الحريق" و"نعام" الذي كان يطلق في الجاهلية وفي الإسلام وادي نعام، فنشأ على القرآن في كُتّاب قريته وعاش طفولته وأوائل شبابه في هذه القرية مع أسرته وهم آل حسين الأسرة المشهورة بالمنطقة. اتخذ عبدالعزيز الراشد قراره تاركاً قريته هذه قاصداً وجهته لتلقي العلم من العلماء، وتحصيل العلوم فرحل إلى ساحل الخليج العربي، وكان هناك علماء من نجد قد استقروا هناك، بل وأسسوا مدارس لنشر العلم ومنهم الشيخ عبدالكريم البكري من أهالي القصيم، فتوجه إليه الشيخ عبدالعزيز الراشد ولازمه وقرأ عليه كتاب "التوحيد" قراءة بحث وتحقيق واستفاد منه فائدة عظيمة، وكان الشيخ عبدالعزيز يثني على شيخه هذا، وأنه ما درس علم التوحيد والعقيدة كعلم إلاّ عن طريق تدريس شيخه عبدالكريم البكري "رحمه الله". زمالة وصداقة رحل الشيخ عبدالعزيز الراشد إلى الأحساء وكان قاضيها الشيخ عبدالعزيز بن بشر، ولازمه وقرأ عليه الفقه وعلوم أخرى، وكان من جملة زملائه على الشيخ ابن بشر الشيخ عبدالله اليابس وعبدالله القصيمي، وأصبحت لهم صحبة وزمالة وصداقة جمعتهم رحم العلم وسافروا إلى العراق، وأخيراً توجهوا إلى مصر وقبل مصر ذهبوا إلى الهند كما في بعض المراجع، فكانت رحلة في العلم ولأجل العلم ليس هناك هدف في قلوبهم إلاّ هذا المقصد الشريف والنبيل والعظيم، استقروا بالقاهرة ودرسوا في الأزهر علوم الشريعة واللغة العربية وكل أخذ وجهته وطريقه. لقد نهل الشيخ عبدالعزيز الراشد من الأزهر ومنحه الله حافظة قوية وبطيئة النسيان - كما أخبرني تلميذه د. أحمد الرّجال استشاري الطب الوقائي -، وكانت ذاكرته معه حتى آخر لحظة من حياته - رحمه الله -، وقد حقق الهدف الذي يحلم به منذ أن كان في قريته «المفيجر» وهو الترقي بنفسه إلى مراتب العلوم. سكن مصر واستقر بها وتزوج بها، وكوّن أسرته وأنجب ابناً هو عبدالرحمن - اتصلت عليه هاتفياً قبل خمسة عشر عاماً - وكان مُعلماً ودرس في الرياض فيما أعتقد، ويروي عن والده الشيخ عبدالعزيز أن منزل والده بالإسكندرية كان قبلة طلاب العلم بالإسكندرية وكذا في المسجد الذي قرب المنزل، وأنجب أيضاً بنتاً. نضوج علمي ولم يُشغل الشيخ عبدالعزيز الراشد سوى بالدعوة ونشر ما علمه الله - عز وجل - له، وكان قد حدد له رسالة سامية هي التوعية الإسلامية بين صفوف الناس وخاصة العامة الذين لا يفقهون الدين الإسلامي الصحيح، وكان يجاهر بآرائه دون تحفظ، لذلك واجهته صعوبات شديدة ومشاكل وعقبات في دعوته، ومع ذلك واصل واستمر في دعوته بمصر وخصوصاً بالإسكندرية، وعلى منهاج السلف الصالح وكان يركز في دعوته في علم التوحيد، لذلك نجد هذا ظاهراً في مؤلفاته وخصوصاً كتابه الضخم القيّم وموسوعته «تيسير الوحيين» إلى الاقتصار على القرآن مع الصحيحين، وهذا الكتاب صار فيه أخذ ورد - أقصد بينه وبين العلماء - وقد دعم الشيخ عبدالعزيز جماعة أنصار السنة بالإسكندرية بكل ما منحه الله من علم باذلاً بسخاء نحو هذه الجماعة التي تنهج المنهج السلفي، فكان يلقي المحاضرات والندوات في مساجد الإسكندرية، وفي مقر الجمعية كذلك، وتأثر به مجموعة من شباب الإسكندرية وقد عاصر الشيخ عبدالعزيز العهد الملكي قبل أن تكون مصر جمهورية، وكانت حرية الدعوة فيها متسع كثير وهامش قوي وهذه المرحلة من حياته هي مرحلة النضوج العلمي والتمكن والرسوخ في العلم، وخصوصاً في علم التوحيد والحديث، ولهذا كتب معظم مؤلفاته أو كلها في هذه المرحلة وهي ما بعد 1350ه والتي تليها، فكان فارساً بقلمه ولسانه في بث العلم الشرعي والوعظ والإرشاد والنصح والدروس الدائمة، وكانت قدمه راسخة في التفسير، وعلم التفسير ليس كل عالم ماهراً فيه بل علم يحتاج ضلوع في علم اللغة العربية وفنونها والعمق فيها، وليته كتب تفسير القرآن الكريم ونشره لكان أضاف إلى المكتبة الإسلامية إضافة جديدة في الطرح العلمي لتفسير القرآن الكريم، لذلك كان يلقي عدة دروس في تفسير القرآن الكريم بالمسجد الحرام بعد صلاة المغرب، بعد عودته من مصر والاستقرار بمكة، فكان آية في علم التفسير. تفسير وتوحيد وقامت ثورة يوليو عام 1952م وبعدها بمدة واجه عبدالعزيز الراشد صعوبات شديدة في الاستمرار بالدعوة واضطر للخروج من مصر - كما أخبرني ابنه عبدالرحمن رحمه الله -، ورجع إلى المملكة وجعل مقره وسكناه بمكة مجاوراً للمسجد الحرام ونزل في بناية في حي أجياد، ولعلها عمارة كعكي، الذي كان سكن فيها فيما بعد العلامة الشيخ علي الطنطاوي - حمه الله - فكانا متجاورين في السكن، فكان - رحمه الله - يصلي الصلوات الخمس بالمسجد الحرام وصرف له مخصص مالي من الدولة فيما حدثني به ابنه عبدالرحمن، واستغل فرصة وجوده بالحرم المكي الشريف، فكان يلقي الدروس في التفسير والتوحيد وتحلق حوله مجموعة من التلاميذ منهم الشيخ صالح المقوشي - رحمه الله - والشيخ سعد السعيدي - رحمه الله - من أهالي الحريق. يقول إسماعيل العتيق في كتابه (أعلام وعلماء عايشتهم): الشيخ عبدالعزيز الراشد من أولئك الذين أخذوا مسلك السلف أهل السنة والجماعة، وهو عالم فاضل متبحر في علم الحديث مع ما هو عليه من سمة الوقار والهيبة، وكان يتزيا بالزي الأزهري «الجبة والعمامة».. - انتهى كلام العتيق-. نزيهاً وعفيفاً ويذكر إسماعيل العتيق أنه كانت حلقة عبدالعزيز الراشد بالمسجد الحرام مشهورة بين رواد المسجد، وكذلك مشايخ الحرم المكي، وكان الشيخ الفقيه المحقق العالم محمد بن سليمان البسام - رحمه الله - يثني عليه وعلى علمه، والشيخ البسام زميله بالمسجد الحرام، حيث كانت له حلقه للتدريس، ويحدثني الشيخ راشد بن حمد آل هملان - رحمه الله - قائلاً: إنه كان يحضر دروس الشيخ الراشد بالحرم المكي في رمضان بعد العصر وكانت في التوحيد، ويقول لي: إن لهجة الشيخ عبدالعزيز الراشد - أي لهجة أهالي مفيجر - لم تتغير رغم رحيله عنها من عقود واستقراره بمصر، وأنا الذي أخبرت الشيخ راشد الهملان بوفاته حينما قرأت خبر وفاته بجريدة الجزيرة في مقال رثائي لا أتذكر مَن كتبه فدعا له وأثنى على غزارة علمه. ويتحدث إبراهيم السيف عن الشيخ عبدالعزيز الراشد - رحمه الله - في كتابه (المبتدأ والخبر) لعلماء القرن الرابع عشر وبعض تلاميذهم قائلاً: كان - رحمه الله - نزيهاً عفيفاً سمحاً جواداً متواضعاً مخلصاً لا يفتر لسانه عن ذكر الله وقراءة القرآن، أوقف كل مؤلفاته لله تعالى خدمة للدين ولطلاب العلم، ولم يتقاض عنها ربحاً رغم حاجته إلى ذلك، وعاد - رحمه الله - إلى المملكة في العقد السادس من عمره واختار رغم العروض التي جاءته للعمل ملازمة المسجد الحرام يواصل الدعوة إلى الله والإخلاص في العبادات والابتعاد عما يشوبها وذلك عن طريق المحاضرات والتدريس في أروقة الحرم المكي الشريف. - انتهى كلام إبراهيم السيف -. كنز معلوماتي وفعلاً كما ذكر إبراهيم السيف أن الشيخ عبدالعزيز الراشد - رحمه الله - كان زاهداً لم يشتغل بأي وظيفة حكومية، بل ولم يتعاط التجارة، وكان في قمة العيش الكفاف والتقشف والبعد عن الأضواء والإعلام المرئي والمسموع والمقروء، ولذلك لم يشتهر عند عامة الناس وجمهورهم، وبهذا لم يكن يعرفه إلاّ الخاصة والنخبة من طلبة العلم في المملكة وفي الإسكندرية، وكان من الممكن أن يجني من مؤلفاته بعضاً من المال القليل لكنه آثر أن توزع في سبيل الله - عز وجل -. ويحدثني د. أحمد الرّجال - تلميذه بالإسكندرية -: إنه استأذن شيخه الشيخ عبدالعزيز الراشد عام 1979م في طباعة بعض مؤلفاته فأذن له وقام بطباعة ثلاثة آلاف نسخة من كتابه العظيم (تيسير الوحيين) بالاقتصار على القرآن مع الصحيحين، وتم توزيع جميع النسخ في أقل من أسبوع، وكان د. أحمد الرّجال استشاري الطب الوقائي بمستشفى الأمير منصور بالطائف قد صحب الشيخ عبدالعزيز الراشد في سنواته الأخيرة، بل كان معه وفاء منه وبجواره لما مرِض مَرضْ الموت، حيث نوّم في مستشفى الهلال الأبيض الذي كان يملكه د. أحمد فوزي - رحمه الله - ذاك الطبيب الشهم الذي امتنع أشد الامتناع أن يأخذ تكاليف علاج الشيخ عبدالعزيز الراشد - كما حدثني د. أحمد الرّجال - مع أن القنصلية السعودية بالإسكندرية قد تكفلت بعلاجه. ويتحدث د. أحمد الرّجال عن شيخه الراشد واصفاً كيف عرفه حينما وجد أناس في مسجد كادوا أن يقضوا على الشيخ إلاّ أنه حال بينه وبينهم من جراء أنه نصحهم وأنكر عليهم بعض التصرفات، واشتد النقاش ومن ذلك الوقت لازم الشيخ الراشد، واصفاً صحبته للشيخ الراشد قائلاً: كان الشيخ بمثل لي كنزاً معلوماتياً لا يبارى ويعتبر وبحق مؤسس الجماعة السلفية بمصر، وهو المنقذ لآلاف الشباب من الضياع، فقد احببناه أكثر مما نحب أنفسنا - انتهى كلام د. أحمد الرجّال -. موسوعة ضخمة وألّف الشيخ عبدالعزيز الراشد عدة مؤلفات ومعظمها يصب في علم التوحيد والعقيدة، فالذي وقفت عليه كتابه الشهير (تيسير الوحيين) وهو موسوعة ضخمة تكلم عن التوحيد بأقسامه ثم العبادات وقد طبع عام 1373ه بالقاهرة، والكتاب الآخر الذي اطلعت عليه (أصول السيرة المحمدية) وهو كتاب نفيس حقق فيه ودقق ونسف الكثير من الأحاديث المكذوبة وغير الصحيحة في السيرة النبوية، وهو مختصر في السيرة لكنه مفيد جداً، وقد فات على د. فاروق حماده في كتابه (مصادر السيرة) ذكره، وكتابه رد شبهات الإلحاد عن أحاديث الآحاد وتحديد التواتر عند أهل الكلام، وهو من الكتب الجيدة في بابه طبع عام 1380ه، وطبعه المكتب الإسلامي فيما بعد، وفي آخر الكتاب أسئلة في مواضيع شتى أجاب عليها الشيخ، وله رسالة عنوانها هاتف الأمن، وكتاب بيان متشابه القرآن، وكتاب الأشفية الرحمانية مع بيان الأمراض القلبية، وله رد على الشيخ شلتوت في مسألة ربا البنوك وهي رسالة صغيرة ومفيدة. خاتمة رحلة العمر وبعد عمر امتد تقريباً إحدى وثمانين عاماً مرض الشيخ عبدالعزيز الراشد وتوفى في الرابع عشر من محرم عام 1403ه بمستشفى الهلال الأبيض بالإسكندرية، قضى هذا العمر كله في الدعوة إلى الله - عز وجل - مطلقاً الدنيا طلاقاً بائناً لا رجعة فيه، فكان مطبقاً لكل ما يعتقده ظاهراً وباطناً، فكانت سريرته مثل علانيته، فهو من بقية السلف الصالح جمع بين العلم والعمل والزهد والورع والكلمة الصادقة والنية الخالصة، نحسبه كذلك والله حسيبه، وقد بذر بذوراً في الإسكندرية تلاميذ أخذوا عنه العلم وقد اشتهر منهم أناس كثيرون فكان الفضل لهذا الرجل الشيخ عبدالعزيز الراشد عليهم. أشكر د. أحمد الرّجال على تزويدي ببعض المعلومات عن سيرة الشيخ عبدالعزيز الراشد، فكان هذا وفاء منه لشيخه، والوفاء في هذا الزمن المادي قليل، رحم الله الشيخ وأسكنه الفردوس الأعلى فهو عالم جهبذ بل علامة. د. أحمد الرّجال تتلمذ على يد الشيخ الراشد في الإسكندرية وصحبه حتى وفاته تيسير الوحيين» من أشهر مؤلفات الشيخ عبدالعزيز الراشد من مؤلفات الشيخ عبدالعزيز الراشد