قلتُ ذات شجنٍ قائم.. إن على الشعراء أن يستعيدوا أسماءهم، وينتظروا ميلادهم، ويدركوا موتهم، ثم حينما يتعاطون الحياة لا يبلغون من ظلالهم إلا عتمة دكنتهم، ومن خطواتهم زحام العابرين حولهم... هكذا تماماً فحينما تكون شاعرًا لن تحتاج إلا لحزنك، ولن تكتمل إلا بروايته، ولن تنتظر إلا حسد الآخرين عليه.. لا يكون لك منك إلا خيبات وجعك وشماتة الصمت بك.. يقتلك ما لا يفهمه غيرك، ويبكيك ما لا تستعيده حينما يذهب، وما لا تنتظره حينما تحتاجه، يختزلك الصمت للكلام، واليقظة للنوم، والتذكّر للحزن، والنميمة للندم، والوقت للفراغ، والحلم للخيبة، والموت للخلود... يسبقك الحضور للغياب، وتأخذك الشمس احتراقاً، والليل سواداً، والنجوم احتمالاً لغيابها في الصباح، ثم لا تعود إلا إليك.. لكن مع كل هذا وذاك يظل الشعر غاية الشاعر الذي ينتظر كل يوم قصيدة لا تأتي، يدّعي دائماً أنها الآتي الأجمل، والمنتَظر بلا توقّع..! ومع تتابع الأحداث وتسارع الضوء وضمور ساعات التأمل، يطل الشعر برأسه من تحت حطام اليومي.. وكأن الحال آلت به إلى أن يكون بلا إرادة ولا قيادة، يفقد هويته القديمة تلك التي كان فيها الشاعر وزير رؤياه وحاكم تاريخه وقائد متلقيه. اليوم لم يتبقَ للشعر من رخام المدن التي تتربص بها متطلبات الواقع حين اكتفى الشعراء بأحلامهم.. أقول لم يتبقَ له غير عصافير مسالمة في شجيرات غريبة ويمامات دجّنتها المدينة، تستيقظ مع الضوء لتنفق صباحاتها المتثاقلة بجمع أعواد القش الشحيح لبناء أعشاشها في غصون محمومة بالرقص، أو في ردهات رخامية آيلة للغبار.. وفي كل صباح يحاول أن يأخذني ذلك الشعر -كأنما وحدي- من زمني، لا أملك إلا أن أسأله كم قشة سقطت من منقار عصفور يحاول بناء عشه في شرفة آيلة للرياح، وكم من يمامة غادرت ردهة نافذتي الموصدة دائماً باتجاه شارع يعج بالطواحين.. أتساءل بلكنة المنكسر وادعاء الولاية والاحتواء في الوقت الذي أقول فيه لصمتي الشعري.. هو الشعر اليوم غريب في حاضره، قريب من ذاكرته، لكننا لا نتكئ عليه إلا حجة بغير إرادته، ولا نبحث عنه إلا لنتسلقه إلى رف جديد في مكتبة يومنا التي لا تعبأ به.. لست خائفاً هنا على الشعر ولا مؤبناً له.. ولا حتى متوجساً من نعمته علي.. لكنني مشفق على أرواحنا حين يتيتَّم الحنين بموته.. ويتقابح الجمال بفقده.. فالشاعر حين تكون غايته قصيدته سيخلو بها في مختبره الجمالي ليركب ويحلل يجرب ويجرب ثم يبكي غناءً ويحزن تاريخاً ويقرأ غيباً.. ليخرج منه أو من عمره وقد ترك رحلته كلها في ذمة التاريخ.. فاصلة: الحزن بعض ملامح القول المؤجّل بالسكوتْ.. ينمو على شفتي الكلام عريشةً للوقتِ .. لا أدري أتثمرُ أم تموتْ.. عنّي .. ستعبر خطوتي الطرقات والأبواب.. مهما خانني ظلّي.. ستعرفني البيوت.