من القضاة الأوائل الذين عاصروا القضاء في بداياته وقبل التنظيم الإداري والفني، عاصر بدايات التحديث فيما بعد، لكنه أفنى معظم حياته (شبابه وكهولته) حتى شاب رأسه في القضاء، وعينته الدولة في أعمال أخرى قبل أن يتسلم القضاء رسميًا ويستمر فيه حتى تقاعد بعد أن أمضى فيه 28 عامًا متنقلًا بين أرجاء المملكة من شمالها إلى جنوبها وغربها، ما بين قرية صغيرة وكبيرة متحريًا الحق والصواب والعدل في قضاياه وأحكامه وصلحه، عُرف بقوة الشخصية بل الشجاعة والجرأة في قول الحق وفيما يراه من حق وحقيقة، فكان -رحمه الله- كما سمعت من سيرته أنه لا يخاف أحدًا أبدًا -وأقصد بذلك أنه لا يخاف في الحق-، وهذه من أهم صفات القاضي أن يكون قويًا من غير عنف لينًا من غير ضعف، هذه الشخصية التي سنتحدث عنها هو الشيخ والقاضي والداعية محمد بن مسلم بن سعيد بن راجح بن عثيمين. وُلد في وادي الدواسر عام 1332ه في "الخماسين"، فتعلم القراءة والكتابة والقرآن منذ الصغر، ولما بلغ عمره 12 عامًا أو 13 بدأ في طلب العلم، وكانت أول معرفته وأبجدياته في حلقات الذكر والعلم مع الشيخ القاضي عبدالرحمن بن سالم بن محمود، ثم حضر حلقات الشيخ سعد بن سعود بن جزلان، ولم يكن الشيخ محمد بن مسلم بن عثيمين سوى مستمع مستفيد لهذه الحلقات، ولكن كانت الرغبة الشديدة والتفرغ الروحي والنفسي لطلب العلم عند الشيخ ابن مطلقة، ولهذا بدأ بداية قوية مع الشيخ عبدالرحمن بن مطلقة وهو من علماء المنطقة، كان أعمى البصر، لكن الشيخ محمد بن مسلم وجد ضالته عند هذا الشيخ وأصبح يرتاد منزله، ودرس عليه في الفقه الحنبلي، قارئًا كتاب (كشف القناع) وكتاب (منتهى الإيرادات)، ودرس عليه في الفرائض كتاب (الشنشورية). عُرف عنه الصرامة والقوة في إصدار الأحكام وتحري الحق والعدل بين الخصوم.. وتميز بالصدق والأمانة علم الفرائض يقول الشيخ محمد بن مسلم بن عثيمين: إنه بعد قراءة هذا الكتاب على الشيخ عبدالرحمن بن مطلقة، قد أحسن قسمة الفرائض، ولا يحسن القسمة والمواريث إلاّ من أتقن علم الفرائض، وبعد مدة من الزمن كان كما يقول عن نفسه في سيرته التي أملاها قائلًا: سمعتهم – أي تلاميذ الشيخ ابن مطلقة - يثنون على علم الشيخ محمد بن إبراهيم، ويذكرون طلبة في الرياض فشاقني ذلك، فقررت السفر إلى الرياض، وهكذا تاقت واشتاقت وعشقت نفس الشاب القاطن في أقاصي جنوب نجد إلى شمال هذه المنطقة حجر اليمامة سابقًا الرياض العاصمة ليس لذات الرياض بل ما فيها من حركة تعليمية نشطة، حلقة الشيخ محمد بن إبراهيم الذي اشتهر ذكره وطار صيته في الخمسينات الهجرية من القرن المنصرم. رحلة شاقة وطويلة ومتعبة يمشيها الشاب محمد بن مسلم بن عثيمين - وللمرة الأولى يرتحل من مسقط رأسه وادي الدواسر- مئات الكيلومترات، رحلة في طلب العلم لا يملك سوى مبلغ زهيد منحته إياه أمه -رحمها الله-، فهو فلذة كبدها، وعندما حطت الرحلة في الرياض، توجه إلى الشيخ عبداللطيف بن إبراهيم، وكان هو المسؤول عن تلاميذ أخيه الشيخ محمد بن إبراهيم، وسكن في دار التلاميذ المسمى «سكن الأخوان»، وأصبح يتردد ما بين الدار والمسجد الذي تعقد فيه حلقات الدرس، فدرس على الشيخ محمد بن إبراهيم – كما يذكر في سيرته وكذلك ما ذكره ابنه الأستاذ أحمد بن عثيمين في كتابه عن والده (الخبر اليقين في سيرة الشيخ محمد بن عثيمين) كتب الفقه والحديث وفي مقدمة النحو الآجرومية وزاد المستقنع وشرحه الروض المربع مع التلاميذ، وفي كتاب بلوغ المرام، هذه الدروس كانت ما بين 1353 – حتى عام 1355ه، والشيخ محمد بن مسلم لم يكن غريبًا على العلم، بل أخذ من العلم الشيء الطيب عند شيخه الشيخ عبدالرحمن بن مطلقة، بل إنه اكتسب علم الفرائض من هذا الشيخ حتى قال الشيخ محمد بن عثيمين -رحمه الله-: إنني تعلمت القسمة من هذا الشيخ، وقال: لم أخرج من الوادي إلاّ وأنا فرضي، ومع ذلك فقد درس الفرائض مرة أخرى في حلقة الشيخ محمد بن إبراهيم، ولحب الشيخ محمد بن عثيمين للعلم والاستزادة طلب من شيخه محمد بن إبراهيم أن يقرأ عليه بعض الكتب، والشيخ محمد لم يمانع؛ لأن القصد المعرفة، وانفرد الشيخ محمد بن مسلم بقراءة هذه الكتب في الحديث، ومنها (موطأ الإمام مالك) وكتاب (رد الدارمي على بشر المريسي)، بعدها انقطع عن دروس الشيخ محمد بن إبراهيم – من عام 1355ه حتى عام 1364ه - ما بين رحلة دعوة وملازمة لوالد الشيخ محمد في رنيه والاشتغال بالزراعة، وهي كذلك لم تخلُ من الدرس والعلم – أقصد مرحلة الانقطاع عن شيخه محمد-. مثابرة وتحصيل وعاد الشيخ محمد بن مسلم بن عثيمين إلى شيخه محمد بن إبراهيم على نفس المثابرة والجلد في تلقي العلم والتحصيل، فكان البرنامج من بعد الفجر مباشرة - ولا يزال الوقت شديد الظلمة - فيروي الشيخ محمد بن مسلم: إنهم يقرأون على الشيخ محمد بن إبراهيم على سراج يوقد ب»قاز»، كان معظم النهار في الدرس والعلم – والنهار في ذاك الزمن هو الحياة والمعاش–، فكانت أوقات الشيخ محمد بن مسلم في الدراسة على الشيخ محمد إبراهيم، يقول في سيرته التي أملاها عام 1415ه وكذلك في الكتاب الذي ألفه عنه ابنه أحمد: ومضينا على هذه الحال – أي برنامج الدراسة على الشيخ محمد بن إبراهيم – فكان يجلس بعد الظهر وبعد العصر، ونقرأ عليه في صحيح مسلم إلاّ القليل وسنن النسائي ومسند الإمام أحمد وأول سنن أبي داود... -انتهى كلامه-، هذه الكتب قرأها الشيخ محمد بن مسلم على شيخه محمد بن إبراهيم هو بنفسه، واستمر الحال من 1364 حتى عام 1372ه، وما بين هذه التواريخ كلف بأعمال إدارية ودعوية كما سنذكره. وكانت رحلته إلى مكةالمكرمة لأجل الدراسة، فقد قرأ على الشيخ الحافظ الموسوعي محمد بن مانع -رحمه الله- في الحرم المكي في الصباح وبعد المغرب في التفسير وفي صحيح البخاري، هذه محطات الشيخ محمد بن مسلم بن عثيمين في طلب العلم من عام 1353ه حتى عام 1372ه. صدق وأمانة وكُلّف الشيخ محمد بن مسلم بن عثيمين -رحمه الله- من قبل الحكومة بأن يكون داعية إلى بلاد غامد وزهران وذلك عام 1355ه، وكان قد اعتذر عن هذا الأمر لصغر سنه وقصور علمه، لكن الملك عبدالعزيز -طيب الله ثراه- ألزمه بالأمر، فذهب ومعه بعض الدعاة، ولبى هذه الدعوة فكان مسيره إلى قلوة وزهران، ونفع الله بدعوته وإرشاده ونصحه، فكان داعية خير وإصلاح ومباركًا أينما كان، وأسس مدارس لتعليم القرآن الكريم، وهذه حسنة من حسنات الشيخ محمد بن مسلم في هذه المنطقة، وقد أحصى 200 قرية في هذه المنطقة – زهران وما حولها-، وفي عام 1364ه كلفته الحكومة بتعديل الموازين ومكاييل الأفلاجووادي الدواسر، وفي العام نفسه كلفته الحكومة بأن يكون مراقبًا على خراج أهل القصيم وأهل حائل والهجر وأخذ الزكاة منهم، وقد حدثت له قصة كاد أن يموت بموت محقق إلاّ أن الله نجاه؛ فقد شرب سمًا فلما أحس بالسم لفظه وشرب بعده سمنًا في الليل، فلما أصبح شرب مرة أخرى، فكان هذا السمن مسهلًا وفقد أسنانه من شدة السم. وفي عام 1370ه أرسله الملك عبدالعزيز بأن يكون مرشدًا وقاضيًا في برقا وكذلك بيشة، وفي عام 1371ه عُيِّن مراقبًا في الحرم المكي؛ ولقد وفقه الله في جميع هذه الأعمال، فكان في قمة النصح والإخلاص والصدق والأمانة، فلذلك كان مسددًا في رأيه ومشورته، وتسود الحكمة والعقلانية فيما يوكل إليه. ناصح ومرشد والشيخ محمد بن مسلم بن عثيمين -رحمه الله- كان من بقية السلف الصالح الذين يتورعون عن تولي القضاء ويرفضونه أشد الرفض، وقد رفض القضاء، وأصر على الامتناع عن تولي القضاء حتى إنه عندما صدر الأمر بأن يكون قاضيًا عام 1372ه كان في مكةالمكرمة، فاعتذر لهم بأن عليه التزامات لا بد أن يقضيها، فذهب إلى الرياض واختفى عامًا كاملًا، وكان يحضر دروس الشيخ محمد بن إبراهيم، وحاول بكل ما يستطيع من شفاعات ألا يتولى القضاء، لكن الملك سعود -رحمه الله- أصر على أن يتولى القضاء، فباشر القضاء بصامطة في الجنوب عام 1373ه. وكان الشيخ محمد بن عثيمين – كما قلت – ليس قاضيًا وحسب، بل هو ناصح ومرشد وداعية ومعلم، فكان قضاؤه في صامطة فألًا لأهل صامطة، وكان البعض قد يتهاونون في الشهادة أمام القضاء وخصوصًا شهادة الزور، وبهذه الدعوة زالت هذه الشهادات، وكان ينصح كل ما يراه مستوجبًا للنصح، فكانت النصيحة هي قاعدته في حياته حتى مماته، وقد بارك الله في جهود الشيخ، وعم النفع بنصحه في صامطة وما حولها، وبعد صامطة عُين قاضيًا في الدوادمي عام 1375ه، وامتنع أيضًا ورفض واختفى في مكةالمكرمة، لكن الحكومة أصرت عليه، فزاول القضاء بنزاهة وحصافة وبقوة في إصدار الأحكام لا يحابي أحدًا دون أحد، والناس عنده سواء، وبقي قاضيًا في الدوادمي حتى عام 1378ه ونقل إلى الرياض، وفي هذه الفترة ما بين 1378 وعام 1380ه لم يباشر أي عمل قضائي لانشغاله بموت أخيه إسماعيل، وكفالته لأبناء أخيه وتسديد ديون أخيه إسماعيل وتمريضه لوالدته في رنيه. وفي عام 1380ه عُيِّن الشيخ محمد بن مسلم بن عثيمين بالهدار في الأفلاج، وطلب من الحكومة تأسيس إمارة بالهدار، وأسس إمارة وبقي الشيخ ابن عثيمين في الهدار حتى عام 1388ه قاضيًا ومفتيًا ومرشدًا وإمامًا وخطيبًا، ونفع الله بدعوته في الهدار، وبعدها نقل إلى أقصى الشمال الغربي في البدع تابعة لمنطقة تبوك، ومكث قاضيًا في البدع ست سنوات، وفي عام 1394ه نُقل إلى الهدار ولو لم يكن قاضيًا نزيهًا لما طلبه أهالي الهدار مرة أخرى، وفي عام 1401ه نُقل قاضيًا إلى بلدة رنيه، التي سوف يستقر فيها بقية حياته، وتكون مدفنه، وبقي قاضيًا حتى عام 1404ه-، وبهذا أمضى في القضاء 28 سنة لم يُعرف عنه في قضائه إلاّ الصرامة والقوة في إصدار الأحكام وتحري الحق والعدل بين الخصوم، فهو من القضاة الذين يتقون الله في كل ما يصدر عنهم من قضاء، متجردًا من الهوى والميل مع أي أحد، ولا يؤثر في قضائه أي علاقة شخصية أو رابطة أخرى، ولم يجمع أموالًا وثروة بل على الكفاف. مؤلفات وكتب والشيخ محمد بن مسلم بن عثيمين -رحمه الله- كانت له مشاركة في التأليف في العلوم الشرعية، وقد عددها ابنه أحمد بن عثيمين في كتابه عن والده (الخبر اليقين) فذكرها كلها، ومنها: (إرشاد العباد إلى معرفة الله وتوحيد واتباع خير العباد)، و(ترك المندوبة إذا أقيمت الصلاة المفروضة)، و(حسن المسير في بيان التعزير)، و(الوعي بتحقيق عدم تكرار السعي)، و(تحقيق المسألة في عدم الجهر بالمسألة)، و(بيان المراد من تحقيق من خلق الإنس والجن)، و(البيان المبين بالمراد من أمر الدين)، هذه جملة من مؤلفات الشيخ العالم محمد بن عثيمين، فالشيخ من القضاة العلماء، وقد فتح منزله لطلبة العلم خصوصًا، ولكل مستفتٍ في رنيه. يقول أحمد عن والده في كتابه (الخبر اليقين): كان -رحمه الله- يحب طلابه وينظر إليهم وكأنهم أبناؤه، وكان لا يخص أحدًا بالثناء، ويرى أنهم سواسية، كما كان يستقبلهم في منزله، ويقول أيضًا عن والده: ليس له وقت للراحة بالمعنى المعروف، فهو طوال وقته مشغول بالقراءة والفتوى والكتابة والشروح، حتى إنه اذا أراد الجلوس معنا في بعض الأوقات، فإنه يجلس وفي يده كتاب، وكان المستفتون يأخذون من وقته جزءًا كبيرًا، كانت راحته في القراءة وقضاء حوائج الناس والفتوى. رحم الله الشيخ محمد بن عثيمين وأسكنه الفردوس الأعلى، فلقد توفي بتاريخ 13/ 12/ 1430ه وكان عمره 98 عامًا، فهو ممن طال عمره وحسن عمله، ونشر علمه بين الناس. نشكر الأخ أحمد بن محمد بن عثيمين على تزويدنا بكتابه عن والده (الخبر اليقين) الذي استفدنا منه في كتابة هذه السيرة. أحمد بن محمد بن مسلم بن عثيمين من مؤلفات الشيخ محمد بن مسلم بن عثيمين كتاب من تأليف ابن عثيمين خطاب تعيين محمد بن مسلم بن عثيمين قاضيًا على صامطة خطاب من ابن عثيمين إلى الملك سعود - رحمه الله - لطلب كتب طبعها الملك عبدالعزيز -طيب الله ثراه- لطلبة العلم