مما يؤدي إلى اتّساع الفجوة في الخلافات الدنيوية أن يحاول أحد الطرفين تخطئة مخالفه انطلاقاً من قواعد اجتماعية، أو عرفية، أو نظامية لا علاقة له بها، بل هي مأخوذةٌ من مجتمعاتٍ أو أنظمةٍ أخرى، وما هذا إلا كمن يناظر الفقهاء بأدلة فيزيائية من الحكم الإلهية أن الناس ليسوا على مقدارٍ واحدٍ من المدارك العقلية، والاستعدادات الفطرية، والمعارف المكتسبة، وقد يبدو جليّاً لشخصٍ ما هو غامضٌ لدى غيره، وقد يستنتج المرء من كلامٍ ما لا يستنتجه منه غيرُه، ولهذا لم يخلُ الناس من اختلافٍ في الرأي، وتنوّعٍ في الاتجاهات، ومن شأن الاختلاف إذا خلا من الدوافع الفاسدة، وجرى فيما يسوغ فيه ومع من يسوغ معه أن لا يؤثر سلباً في علاقة المتخالفين، وأن لا يجرَّ مفاسد على غيرهما، فمن المهم معرفة ضوابط الخلاف السائغ، ومنها: أولاً: أن لا يقع في الثوابت والمسلّمات، ففي الأمور الشرعية لا مجال للخلاف في قطعيّاتِ الشرع المعلومة بالضرورة، ولا مجال للخلاف في مسائل الإجماع، ونحوها مما اتّفق فيه العلماء، وكذلك في غير الشرعيات لا يسوغ الخلاف في المتقرّرات المتفق عليها بين أهل الخبرة والمعرفة في المجال المعني، إلا أن الأمور المادية المبنية على أسسِ التجربة والمشاهدة قد يُقبلُ من المخالف أن يُطوِّر فيها فكرةً معينةً بواسطة إثبات ما يُخالفها بشكل مُشاهدٍ محسوسٍ، بخلاف الشرعيات، فلا سبيل للمساس بقطعيّاتها البتّة. ثانياً: أن لا يقع في المنصوصِ شرعاً الصحيحِ دلالةً وسنداً السالمِ من المعارض، فالواجب على المسلم الانقياد للنصّ الشرعي، وعدم ارتكاب التّشهّي والانتقاءِ في التعامل مع النصوص، وأن يكون جاهزاً للدوران مع الحقّ حيثما دار، وأن يجعل ما جاء عن الله جل وعلا وعن رسوله صلى الله عليه وسلم رافعاً للنزاع، وحاسماً للخلاف تحقيقاً لقوله تعالى: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا). ثالثاً: أن لا يكون المخالِف منهياً شرعاً عن مخالفة المخالَف، فإن خالف الإنسان من لا تجوز له مخالفته لم يسغ هذا الخلاف، فلا يسوغ أن يخالف أحدٌ من الرعية وليَّ الأمر؛ لأن ذلك منافٍ لطاعته المأمور بها على سبيل الإيجاب في النصوص الشرعية كقوله تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ)، ولا يسوغ للابن أن يخالف والديه لأن ذلك منافٍ لبرّهما الواجب، ولا يسوغ للعامي أن يخالف العالم في أيّ أمرٍ يتعلّق بالشرعيات؛ لأن ذلك مناقضٌ لسؤال العالم الذي أُمِرَ به غير العالم، قال الإمام ابن عبد البر رحمه الله: «ولم تختلف العلماء أن العامة عليها تقليد علمائها، وأنهم المرادون بقول الله عز وجل: (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون)، وأجمعوا على أن الأعمى لا بُدَّ له من تقليد غيره ممن يثق بميْزِه بالقبلة إذا أشكلت عليه، فكذلك من لا علم له ولا بصر بمعنى ما يدين به لا بُدَّ له من تقليد عالمه». رابعاً: أن يكون الخلاف محكوماً بقواعد الأمر الذي وقع فيها، فإن كان المختلف فيه مسألة علمية شرعية كانت أو غيرها فإنما يسوغ فيها الخلاف إذا انضبط بالقواعد المستخدمة في ذلك العلم، وبهذا يمتاز الخلاف السائغ عن الخلاف المذموم، فالمذموم المعبّرُ عنه بالمراء والجدال العقيم لا ينطلق من قواعد سليمة، ولا يخضع لضوابط تحكمه، وهو مشؤومٌ كم ذاقت الأمة بسببه أنواع الويلات، وإن كان في الشؤون الدنيوية فَصِحّتُهُ مرهونةٌ أولاً بأن لا يؤدي إلى منهياتٍ شرعيةٍ، وهذا القيد مُراعًى في كل شؤون الحياة، وثانياً باحترام الأعراف، والعادات، والأنظمة، والقيم السائدة في المجتمع، ومما يؤدي إلى اتّساع الفجوة في الخلافات الدنيوية أن يحاول أحد الطرفين تخطئة مخالفه انطلاقاً من قواعد اجتماعية، أو عرفية، أو نظامية لا علاقة له بها، بل هي مأخوذةٌ من مجتمعاتٍ أو أنظمةٍ أخرى، وما هذا إلا كمن يناظر الفقهاء بأدلة فيزيائية !! خامساً: أن ينحصر الخلاف في حدوده، ولا تُبنى عليه تصوراتٌ وأحكامٌ لا يحتملها، وهذه نقطةٌ مهمةٌ جداً؛ وكثيرٌ من شرور الخلاف المذموم إنما نتجت عن إهمال هذا الضابط، فاللائق بالمختلِفَيْن أن لا يسمحا للخلاف بالتمدّد إلى ما لا علاقة له به، ففي القضايا العلمية ينبغي أن تَرُدَّ ما ترى المناظرَ غَلِطَ فيه، وتَقبلَ ما عنده من الحق، وأن لا تهدر كل ما يقوله، وفي القضايا الدنيوية ينبغي أن يُهَوَّنَ الخلاف، ولا تُعممُ نتائجه، وتتأكد أهمية ذلك إذا كان أُسريّاً، حيث تؤدي توسعته إلى قطع الأرحام، وخراب البيوت، ومعاناة الناشئة، فكم كلماتٍ يسيرةٍ جَرَتْ بين زوجين فوسّعا دائرتها، حتى تحوّلت إلى خلافٍ جذريٍّ يصعب احتواء شرره المستطير.