كم مرة أنهيت يومك وأنت تشعر بأنك لم تتوقف للحظة، ومع ذلك لا تجد إنجازًا حقيقيًا تفتخر به؟ تتنقل بين الاجتماعات والمهام والردود الفورية، وتغرق في بحر الإشعارات والرسائل، ثم تتساءل في نهاية اليوم: ماذا فعلت فعليًا؟ تلك الحيرة التي نشعر بها ليست إلا نتيجة مباشرة لحالة من الانشغال الوهمي، حيث تبدو الحياة مزدحمة، لكن الواقع أنها تخلو من الإنتاج الفعلي والتقدم الحقيقي. لقد أصبح الانشغال في زمننا علامة يتباهى بها البعض. نسمع أحدهم يقول:" مشغول دائمًا" وكأنها وسام شرف، أو برهان على الأهمية. لكن الحقيقة أن كثيرين يركضون في مكانهم دون أن يحرزوا أي تقدم ملموس، كمن يركض على جهاز مشي دون أن يقطع مترًا واحدًا نحو هدفه. يتحركون بلا توقف، لكنهم لا يتحركون نحو أي وجهة واضحة. هذا النوع من الحركة لا يعبر عن إنتاج، بل يكشف عن تشتت وخوف من مواجهة المهام الجوهرية، التي تتطلب تركيزًا وجرأة وصبرًا. الانشغال الوهمي غالبًا ما يكون غطاء للهروب من التحديات الحقيقية. فنحن نميل إلى الانشغال بتفاصيل صغيرة تُشعرنا مؤقتًا بالإنتاج، بينما نؤجل المهام الكبيرة التي تصنع الفرق. التكنولوجيا زادت الطين بلّة، فالهاتف لا يصمت، والإشعارات تنهال علينا في كل لحظة، ووسائل التواصل الاجتماعي تسرق تركيزنا دون إذن. الأسوأ من ذلك أن كثيرًا من بيئات العمل باتت تكافئ "الظهور الدائم" وتُقيّم الأداء بعدد التفاعلات وسرعة الرد، بدلًا من عمق الفكرة أو جودة الإنجاز. أتذكر أحد الزملاء في مجال الأعمال كان يتعلل دائمًا بأنه مشغول للغاية، يرفض أي طلب، ويتظاهر بأن لديه من المهام ما لا يُحصى. لكني كنت أعرف أنه يقضي معظم وقته يتنقل بين المواقع بلا هدف، أو يذوب في عالم الألعاب الإلكترونية. دخلت معه في صدام كبير حين واجهته بهذه الحقيقة. الحقيقة أن هناك من يعيش داخل فقاعة "الإنسان المهم"، حيث يظن أن الانشغال يمنحه قيمة، وأن تأجيل المهام يُعزز صورته أمام الآخرين. لكن الواقع أن هذه الصورة سرعان ما تنهار أمام اختبار الإنتاج الحقيقي. أنا شخصيًا، رغم كثرة السفر وتعدد المسؤوليات، لم أرفض يومًا مهمة أو أتأخر في أداء واجب. السر ليس في امتلاك وقت إضافي، بل في إدارة الوقت بذكاء، وفي القدرة على ترتيب الأولويات ورفض المشتتات. النجاح لا يقاس بعدد الملفات المفتوحة ولا بالركض المستمر، بل بالقدرة على التقدّم نحو الأهداف التي وضعناها لأنفسنا. أن تكون منتجًا لا يعني أن تكون مشغولًا طوال الوقت، بل أن تكون حاضرًا بكامل تركيزك فيما يفيد. أن تقول "لا" لما يشتت طاقتك، وتمنح جهدك لما يصنع فارقًا. أحيانًا، يكون التوقف هو أفضل ما يمكنك فعله، لا لأنه استسلام، بل لأنه لحظة وعي تعيد فيها توجيه بوصلتك. كثيرون يركضون في الحياة دون وجهة، يلهثون خلف المهام ولا يصلون، لأنهم ببساطة نسوا أن الطريق لا يُقاس بالسرعة، بل بالاتجاه. فلنحذر من وهم الانشغال، ولنسأل أنفسنا في كل مرة نشعر فيها بالإرهاق: هل ما أفعله الآن يقربني من حلمي؟ أم أنني أركض فقط لأبقى واقفًا في مكاني؟