في كل مرة تختار فيها روايتك تجد أن هناك قواسم مشتركة تربطك بعوالم الروايات تلك، وكأن «سحراً» واحداً يأخذك من يديك حتى يرميك في تلك الفوضى المشتركة لفضاءات تلامسك، تضع إصبعاً بداخل صدرك وتقول لك «هذا أنت»! تقربك من العتبة التي لطالما وقفت عليها خلف الباب الموصد للحكاية لتدخلها من أعلى ضفة بها نحو التخيل والمتعة ثم ما تلبث بعد أن تنهي قصصك تجد نفسك متورطاً في كل ما أشبعتك به هذه الرواية من توق وإرباك وقلق وحيرة وفرح.. لكنك وأمام هذه النشوة تضعها بين يديك لتربد على غلافها وتجرب أن تطبع تلك اللوحة الأمامية للكتاب بداخلك ولتختبر ذلك التجاذب الذي شكل عندك الجذب لرواية قرأتها فأحببتها ولكنك في المرة الأولى للقاء بها قرأت غلافها أولاً قبل أن تسافر في محتواها، وهذا يكشف حقيقة أن «لغلاف» الكتب التي نقرأها حكايات معنا تشبه كثيراً تلك الحكايات التي نعيشها في محتواها. وتمثل رواية «نسيان com» حالة خاصة في الغلاف الذي جاءت عليه كواحدة من الروايات التي بدت مستفزة كثيراً للنساء خاصة، وربما للرجال أيضاً، فاعتمدت أحلام مستغانمي في رواياتها «نسيان» والتي طبعت الطبعة الأولى منها العام 2009م على الغلاف الخارجي الذي يبدو أنها أرادت أن تعكس واقع المحتوى الذي كان يضج بالداخل بمشاعر المرأة حينما ترغب في نسيان الرجل الذي أحبته، وهي الرواية التي تحتار كثيراً لتصنيفها حيث إنها تحمل صفة البوح السردي الخاص لامرأة تتحدث عن ذاكرتها المثقوبة ومن خلال تجارب مخيبة للأمل مع الرجل ولكنها تحفز النسيان على أن يطغى في حياتها وحياة صاحباتها لأنه العلاج الوحيد ولكن للأسف غير المجدي «للحب». وحينما نتأمل في الغلاف الخارجي لهذه الرواية، نجد أنه غلاف يرتدي الأسود وهو اللون الذي بدا طاغياً ومغرياً وله حضور شامخ على «النسيان»، وكأن في اختيار لون الرواية دلالة رمزية على أن النسيان هو حالة يائسة، علاقته بالذاكرة المرتبطة بذكرياتها مع الحبيب علاقة سوداء، وهي دلالة تكشف فداحة العذاب والألم النفسي الذي يعيشه كل من خلف وراءه حكاية «عشق» موجعة، فالأسود الطاغي على غلاف الرواية كان يأخذنا إلى فداحة فاجعة الخيبة لحب لم يكتمل ثم يأتي النسيان وهو العلاج الموجع الذي يشبه سواد الظلام في وحشته ليتركنا في الفوضى العارمة تلك من تناقض المشاعر وخيانة الذاكرة، ولكنه في الوقت ذاته يلبس قرار النسيان بثوب لونه أسود وهو أكثر الألوان التي ترتدى في الحالات الخاصة حينما ترغب أي امرأة أن تتميز في حفلة دعيت لها. وقد اعتمدت الرواية في نوع الخط على الخط العريض الذي توسط الغلاف بالحروف العربية لكلمة «نسيان» متبوعة بالحروف الإنجليزية لكلمة «com» وهي الالتقاطة الذكية لعصر بات غارقاً حتى أذنيه في عالم ال»com»، وكأنها تنقل الرواية من صفة الكتابة الورقية إلى العالم الافتراضي الذي يسمح للحكاية أن تنثر في ذلك العالم، في حين تنوع الغلاف أيضاً بخط متوسط وآخر صغير لاسم الكاتبة ولاسم دار النشر، وبقيت زهرة عباد الشمس التي بدت يائسة ونحيلة وجافة متماهية مع ذلك السواد في وسط الغلاف، مربوطاً ساقها بشريط نحيل أصفر وكأنه شرائط قيود الحب المكبلة بها المرأة حتى بعد الفراق والتي انفتلت بداخل امرأة أمضت حياتها العاطفية كعبادي الشمس الصبور الذي تحمل كثيرًا حتى يخرج من الحياة بعشقه معافى من حالة اليتم لكنه فشل، فبدت زهرة عبادي الشمس مسيطرة وطاغية وهي تسبح مع ذلك السواد الطاغي كما لو كانت «وردة» رميت في ليلة موحشة غريبة ووحيدة، وبدا ذلك ظاهراً في طريقة رسم الزهرة التي جاءت منحية من أقصى اليمين حتى اليسار وكأنها في حالة سقوط مخيب وهي الحالة التي تعكس المشاعر المرتبكة بداخل الرواية لحكاية نسيان ليس بنسيان؛ لأن كل شيء في الوجود: الهواء، والطريق، وصوت المذياع، وصافرة، إبريق الشاي، والصباحات، والجرائد تذكرك بذلك الحبيب، فكان عبادي الشمس الذي هو دلالة رمزية حية للمرأة التي عرفت عبر التاريخ بأنها أكثر وفاء من الرجل في الحب. وجاء هذا التماهي في اختيار اللون وعبادي الشمس دلالة على رمزية الغلاف فعادة ما يكون الرمز في الرواية إما صورة أو شيئاً محسوساً وربما يكون أسطورياً كأن يرمز للسلام بالحمام، وبالهدوء للنبع، والخروج من العزلة بالشمس، وبالدبابة بالحرب، ولذلك اعتمدت رواية «نسيان» على رمز معقد ويصعب فك شفرته إلا أنه حالة متكاملة من الذاكرة المعتمة كالأسود، وقلب مازال ينزف كالعبادي الذي يتحمل العطش. إلا أن الإغراء في الغلاف لرواية نسيان لم تقف عند ذلك الحد إنما تركت ختماً بالأحمر على أقصى زاوية في الرواية من اليسار مكتوب عليها «يحظر بيعه للرجال» وكأن هناك حالة استفزاز لمشاعر الرجل الذي لا يحب كثيراً الإصغاء لمشاعر المرأة التي تصفه بالقسوة في حين أنه سيحتاج بعد أن تم وضع الختم على الغلاف أن يتسلل خفية ليشتري رواية تترك بصمات جريمة النسيان على ذائقته القرائية. وأخيراً، كل غلاف هو باب موارب لعوالم تنبثق من الأوراق لتمنحنا دلالة السطور في لحظة واحدة. وأظن أن أحلام مستغانمي ختمت حكاية غلافها في سطرها الذي كتبت في الرواية.. «أحبيه كما لم تحب امرأة.. وانسيه كما ينسى الرجال». Your browser does not support the video tag.