يؤكد الغرب الجديد أن على العالم اليوم أن يتمثل قيم الغرب وسياساته واقتصاده وأفكاره وأخلاقه ومناهجه، ورغم عقلية الغرب المثقفة والإمكانات العلمية والمادية، إلا أن أزمته الفكرية مع التراث الشرقي ما زالت متجددة.. في قسم الدراسات الآسيوية في جامعة Seton Hall بالولاياتالمتحدة الأميركية، أو ما يطلق عليه أحيانًا مركز الدراسات الآسيوية، وفي محاضرة تاريخ الهند، كان النقاش يدور حول كتاب سيرة غاندي الذاتية The store of my experiment With truth، وبالذات الفصل الذي تناول رحيله إلى إنجلترا بعد الزواج للدراسة، وترك زوجته عند والديها، واستئذان والديه في الرحيل. كان أستاذ المادة يحاول أن يقف على واقع نظريات التفارق والتقارب في عقول طلابه وطالباته حول هذه الأوضاع الاجتماعية، من خلال تطبيق المنهجية العلمية الغربية على الموضوع المدروس، كان نقاشًا حرًا وسجالًا أكاديميًا، ولكنه ليس موجهًا لتعزيز التمايز أو الضدية أو التفارق، كان جدلًا أكاديميًا عفويًا تفرضه شروط الفضاء الأكاديمي الحر. انقسمت المحاضرة ما بين مؤيد ومعارض، وتحولت إلى جدل علمي ما بين الرؤية الغربية والرؤية الشرقية، كان زملاؤنا الطلاب الغربيون - وكما هو متوقع - قد رأوا في ذلك تعبيرًا عن فلسفة اجتماعية متحجرة، وكان التساؤل: كيف يمكن أن يرضى مخلوق لنفسه بهذا الوضع الاجتماعي، خصوصًا إذا كان هذا الإنسان زعيمًا روحيًا؟ وسبب نظرة زملائنا الطلاب الغربيين هو النظرية الاجتماعية الغربية، وتطبيق المنهجية الغربية التاريخية على التراث الشرقي، وهذا ما حدث في مسألة الاستشراق حين درست مجتمعاتنا العربية والإسلامية عن طريق المنهجية العلمية التاريخية. ويحدث هذا أيضًا في مراكز الدراسات الغربية، فمثلًا مراكز دراسات الشرق الأوسط في الجامعات الأميركية ليست مجرد قاعات أكاديمية لدراسة التاريخ والجغرافيا والأديان فحسب، وإنما تتعدى هذا الطور إلى دراسة الدول اجتماعيًا وسياسيًا واقتصاديًا وحضاريًا على المنهجية العلمية الغربية. وإن كانت المنهجية العلمية الغربية لا تسلك طريقًا واحدًا، باعتبار أن الغرب يتشكل في مذاهب فكرية، فمثلًا منهجية فلوجيه التاريخية الكلاسيكية لا تخضع للمؤثرات الاجتماعية والاقتصادية للموضوع المدروس، وإنما تدرس الأفكار ككيان مستقل بذاته، على خلاف منهجية كلود كاهين التي تخضع الأفكار للعوامل الاجتماعية والاقتصادية. وهناك اجتهاد لتفسير هذا السلوك المنهجي، وهو أن المؤسسة العلمية الغربية تقوم على فلسفة تربوية غربية، تتمثل النظرية الغربية في منهجية عرض الأفكار أو حتى المعرفة، فالاتجاه الغربي في التفكير يقوم على روح المدنية الأوروبية الغربية. وقد خضع الشرق في وقت مبكر لقراءات نقدية تاريخية قائمة على سياق التجربة الغربية (الشق الأوروبي الغربي)، وبالذات بعد أن اعتبرت السوسيولوجيا علمًا نقديًا، وعلى إثر هذا تعرضت المعتقدات والثقافات الشرقية القديمة لحركة نقدية واسعة. كانت تلك القراءات النقدية التاريخية والمؤسسة على علم الاجتماع الحديث مستقاة من نظريات وأفكار عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر والمفكر الفرنسي إميل دوركايم، التي تناولا فيها أديان وثقافات الشرق، بما اعتبراه الفشل الثقافي التاريخي الشرقي في إحداث نقلات وتحولات حضارية عالمية كبرى، قياسًا إلى ما سجله الغرب الحديث من نقلات وتحولات حضارية، تمثلت في عصر النهضة، فالشرق - في عرفهما - استنفد مهماته التاريخية، ولم يستطع البرهنة على نفسه منذ القرن الثامن عشر وإلى القرن العشرين. وإن كان من الخطأ المنهجي رؤية الشرق بمنظار الوعي والتجربة الغربية أو قراءة المجتمعات الشرقية من واقع المنهجية العلمية الغربية أو أدوات الفكر الغربي. فما يقدمه فيبر - ذو التاريخ اليساري - أو دوركايم مجرد إرث مسيحي روماني فلسفي أعيد بناؤه في قالب فكري، يبدو وكأنه نسق فكري جديد في محاولة لتغيير الواقع بمنهجية ترويض الشرق فيما يتعلق بحياته الثقافية والدينية، وإحالته إلى مجرد فضاءات فراغية قابلة للتوظيف من قبل الإنسان الحديث، وذلك عن طريق خلخلة بنى الوعي الثقافي، وتفكيك المقدس الديني، وتشكيل الشرق بأفكار الأزمنة الحديثة لأغراض الهيمنة والتسخير الاقتصادي. وهو الدور نفسه الذي تعرضت له الحركة البروتستانتية عندما وضعت البذرة الأولى في حقل النظام الرأسمالي، وكانت حجر الزاوية في بداية مراحل صناعة النظام الرأسمالي الحديث، عندما لعبت الحركة البروتستانتية دورًا كبيرًا في تشكل النظام الرأسمالي، حين ضخت طاقتها الدينية في مفاصل المؤسسات الاجتماعية والاقتصادية، وبعد أن تكامل النظام الرأسمالي، وانتظم في جميع ميادين الحياة العامة، تراجعت الحركة شيئًا ما، ثم تداعت تحت ثقل السنوات وتهاوت، وكانت أولى ضحايا العالم الحديث التي كانت سببًا في ولادته، وهي محاولة لتنشئة العالم من جديد على القيم الثقافية الغربية والأنماط السلوكية والمفاهيم الحضارية بوسائل سياسية واقتصادية وتقنية غير محايدة، وإنتاج قيم وعادات وتقاليد جديدة، توحد العالم سياسيًا وثقافيًا وفكريًا. يقول ديفيد روثكوب مدير مؤسسة هنري كسنجر: يجب على الولاياتالمتحدة الأميركية أن تعمل على نشر ثقافتها بكل الطرق والوسائل؛ لأن الثقافة الأميركية هي نتاج الثقافة العالمية. ولذلك يؤكد الغرب الجديد أن على العالم اليوم أن يتمثل قيم الغرب وسياساته واقتصاده وأفكاره وأخلاقه ومناهجه، ورغم عقلية الغرب المثقفة والإمكانات العلمية والمادية، إلا أن أزمته الفكرية مع التراث الشرقي ما زالت متجددة. إن معظم معارف اليوم في الغرب ليس في مجال العلوم الإنسانية والاجتماعية وحدها، وإنما في العلوم الطبيعية، إذ تقوم على أساس نظري وفكري. ولكي نستفيد من هذا العلم علينا أن نخضع هذا العلم لنسق عقلي نؤمن به؛ إذ إن الوهم السائد بحيادية العلوم الطبيعية أو الإنسانية ليس صحيحًا، فالعلوم الطبيعية موجهة ليس إلى التكنولوجيا وتيسير الحياة المادية فقط، ولكنها موجهة مع هذا إلى محاولة تفسير العالم الطبيعي، الذي نعيش فيه، وعند ذلك يكون التلقي الناقد طريقنا لفهم هذا العلم؛ حتى لا نقع في حيرة فكرية، وعندما تصير الحيرة الفكرية هدف العلم، يصير عدم اليقين الفكري هو الشعار، وهذه حالة لا يستفيد منها أحد. Your browser does not support the video tag.