من الناس من ينسى في زحمة الأشياء الكبيرة بعض التفاصيل الصغيرة التي قد يتسبب إهمالها في نتائج خطيرة. وهذا ربما وضع معتاد ولكن الإشكال في رؤية بعض من يتولون مسؤوليات كبرى حين يعتقدون أن التفاصيل الصغيرة أقل شأناً من أن ينشغلوا بها. نعم ربما هذا صحيح في جزئية منه حتى إنهم في أدبيات الإدارة الغربية الحديثة يستخدمون كلمة «nitpicky» بصورة سلبية غالباً وتطلق على المنشغل بالتفاصيل دون الصورة الكبرى. ومع أن عدم الالتفات للتفاصيل الصغيرة يلخصه المثل العربي الجميل «القشة التي قصمت ظهر البعير» إلّا أن ثقافة عدم (إزعاج) (سعادة) المدير بالتفاصيل قد تؤدي إلى كوارث حقيقية. وتبدأ المشكلة في ترك (السيد المدير) للتفاصيل فيتولاها الصغار وأحياناً المنتفعون فيستغلونها حتى يتكاثر الوسطاء وتكون النتيجة تضخم الفساد والبيروقراطية حتى في أتفه الأمور. ولكن لأن المهام الكبرى هي مجموعة تفاصيل صغيرة فلا بد من إيلائها العناية الكافية. ولعل هذا يفسر سبب اختراع الغربيين لما يسمونه (To Do List) أو (Checklist) لما ينبغي عمله من مهام وتفاصيل صغيرة لتحقيق الهدف الكبير. ومن يرصد طلبات التوظيف وأدلة المقابلات الوظيفية لبعض كبريات الشركات العالمية يجد أن بعضهم يطلب في بعض إعلانات التوظيف موظفين ذوي مهارات خاصة في التقاط التفاصيل detail-oriented workers. وأذكر في بواكير حياتي أني التقيت مسؤولاً كبيراً في وزارة مهمة كان كلفني بعمل ولم يدم اللقاء أكثر من عشر دقائق ركّز فيه على أسئلة بدت لي تفاصيل شخصية حينها. وبعد حوالي ثلاث سنوات التقيته مرة أخرى في موضوع جديد وكانت المفاجأة هي طبيعة الأسئلة التفصيلية عن دراستي وأسرتي بالاسم. خرجت من مكتبه مذهولاً. بعد سنوات التقيت ذلك المسؤول في صالون ثقافي فلم أتمالك نفسي فسألته عن ذاكرته مذكراً بموقفي معه فابتسم وقال تعودت إذا دخل مكتبي شخص اهتم لأمره أن أسأله عن حياته وطموحاته ثم أدون ملاحظاتي بعد اللقاء في سجل شخصي مرتب بحسب الحروف الأبجدية. الأجمل أن هذا الشخص –كما علمت من معارفه- يراجع هذا السجل بين فترة وأخرى ليدعم الطموحين ويحاول تذليل العقبات مستفيداً مما لديه من تفاصيل صغيرة. ولعل الاهتمام بالتفاصيل أحد أبرز الأسباب التي أحدث ثورة «ستيف جوبز» في صناعة التكنولوجيا حيث كان –بحسب من عملوا معه- مهووسًا بإتقان التفاصيل. ومن التاريخ القريب تقول بعض فرضيات تفسير أسباب غرق السفينة العالمية «تيتانك» أن السبب يرجع إلى تهاون مسؤولي السفينة في (تفاصيل) استلام موظف المراقبة لمفتاح الخزنة التي تحفظ فيها المناظير المكبرة (الدربيل) والتي لو استخدمها لأمكنه رصد الجبل الجليدي مبكراً قبل أن ترتطم به السفينة. وفي عملية «خليج الخنازير» (إبريل 1961) التي خططت لها المخابرات الأميركية لدعم المعارضة الكوبية ضد النظام الشيوعي الجديد في كوبا آنذاك كان إهمال حساب فارق التوقيت بين نيكاراغوا (مقر الطائرات المشاركة) وكوبا مسرح العمليات سبباً رئيساً لفشل العملية حيث وصل الغطاء الجوي بعد ساعة من بدء العمل على الأرض والذي تم سحقه لغياب الدعم الجوي. * قال ومضى: حتى وإن عفوت عنك؛ أين ستذهب من ضميرك حينما يصحو من غفوته؟ Your browser does not support the video tag.