ينقل بورخيس في (صنعة الشعر) كلاماً فلسفياً جميلاً عن القس بيركلي يقول فيه: "طعم التفاحة ليس في التفاحة نفسها -فالتفاحة بذاتها لا طعم لها- وليس في فم من يأكلها، وإنما هو في التواصل مع الاثنين"، ويُضيف بورخيس: "الشيء نفسه يحدث مع كتاب أو مجموعة من الكتب... مع مكتبة. فما هو الكتاب بذاته؟ الكتاب هو شيء مادي في عالم أشياء مادية. إنه مجموعة رموز ميتة. وعندما يأتي القارئ المناسب، تظهر الكلمات إلى الحياة". يُشير هذا الاقتباس إلى أهمية "التواصل" أو التفاعل بين القارئ والمقروء لبلوغ التذوّق، فكل نص لا يمكن أن تكون له قيمة حقيقية إلا بتفاعل المتلقين واختلاف مواقفهم منه، وقد صاغ النقاد فكرة "التفاحة والفم" صياغةً تتناسب مع قراءة الأدب فأكدوا على أن "الظاهرة الأدبية ليست موجودة في النص ولا في القارئ، ولكنها كامنة في التفاعل بينها". في أحيان كثيرة يكون النص الأدبي جيداً لكن عجز المتلقي عن التفاعل معه بطريقة صحيحة يدفعه لإصدار حكم سلبي عليه، ولعل أوضح مثال على هذا النمط من التلقي موقف بعض المتلقين من الشعر الشعبي ورفضهم له نتيجة عجزهم عن التفاعل مع نماذجه الرائعة بشكل إيجابي يتيح لهم إدراك ما ينطوي عليه من جماليات. في كثير من الأحيان يكون استعداد المتلقي النفسي وثقافته عاملين مهمين لزيادة تفاعله مع القصيدة بشكل ممتاز ينتج عنه حالة من الدهشة أو الابتهاج الشديد، ونجد في تراثنا النقدي نصوصاً عديدة تصور مدى تأثير النص الشعري الجيد على المتلقي حين يمتلك تلك الثقافة وذلك الاستعداد، يقول ابن طباطبا العلوي (ت322ه): "فإذا ورد عليك الشعر اللطيف المعنى، الحلو اللفظ، التام البيان، المعتدل الوزن، مازج الروح ولاءم الفهم وكان أنفذ من نفث السحر، وأخفى دبيبًا من الرّقى، وأشد إطرابًا من الغناء، فسلَّ السخائم وحلل العقد وسخّى الشحيح، وشجّع الجبان". هذا النص يوضح الأثر القوي للشعر الجيد، فهو يمازج روح المتلقي الذي يكون تحت تأثيره كالمسحور أو كالمخمور يتخذ قرارات لم يكن ليتخذها في حالته الطبيعية، والإشارة إلى "الرّقى" تذكرنا بمقولة وردت في (الأغاني) يوضح صاحبها قوة تأثير أشعار كُثير عزة، يقول إبراهيم بن سعد: "إني لأروى لكُثير ثلاثين قصيدةً، لو رُقي بها مجنون لأفاق"! ومن العبارات الجميلة التي تصور شدّة تأثر المتلقي بالشعر أيضاً عبارة ذكرها أحد الرواة في (العمدة في محاسن الشعر)، فقد ذكر أن الشاعر عبدالكريم النهشلي أنشده "شعراً يدخل مسامّ الجلد رقةً". تصوير قدرة الشعر على النفاذ إلى مسام جلد المتلقي وممازجة روحه وشفائه تصوير بالغ الروعة، لكن هذه الحالات لا يمكن أن تتحقق إلا بوجود استعداد نفسي وثقافة عالية تمكّن المتلقي من فهم دلالات النص الشعري والتفاعل معه بإيجابية. أخيراً يقول معجب السبيعي: على حدود الياس ب أبني لي أمل قد قيل من دون الأمل مات الفقير بضحك لو إن الجرح باقي ما اندمل ربي كبير، وظني بربي كبير