استمرار هطول أمطار على جازان وعسير والباحة    إقامة ملتقى "نشر ثقافة الاعتدال وقيم التعايش والتسامح للوقاية من الفكر المتطرف ومعالجة آثاره" بتعليم القريات    التدريب التقني يرصد 38 مخالفة بمنشآت التدريب الأهلية في أبريل    مشاريع تنموية ب14.7 مليار ريال في مكة    إطلاق المسار النقدي لتجربة البدر الثقافية    السعوديات إخلاص وتميُّز بخدمة الحجاج    وفاة الأمير سعود بن عبدالعزيز بن محمد بن عبدالعزيز آل سعود بن فيصل آل سعود    كلاسيكو التحدي بين «الأصفرين».. والبطل على أعتاب «التاريخية»    المجفل سفيراً لخادم الحرمين لدى سورية    مملكة الإنسانية وصحة الشعوب    آل الشيخ يعزز التعاون مع البرلمانات العربية    عبيدالله سالم الخضوري.. 16 عاماً ملكاً على الكونغو    خادم الحرمين الشريفين يرعى نهائي أغلى الكؤوس    5 من أمراض المخ ترتبط بتغير المناخ    جامعة المؤسس: الزي السعودي إلزامي على الطلاب    وزارة الإعلام تحتفي بطلاب وطالبات أكاديمية طويق ومدارس مسك الفائزين في معرض آيتكس 2024    فريق طبي بمستشفى عسير يُنقذ حياة أربعيني تعرّض لطلق ناري في الرقبة    بيان التسمم    رابطة اللاعبين تزور نادي العروبة    أخضر الشاطئية يتأهل لربع نهائي البطولة العربية    حتى يبدع الحكم السعودي    ضمن فعاليات تقويم جدة بسوبر دوم.. غونتر يتوج بلقب" ملك الحلبة".. و" ناي جاكس" ملكة السيدات    ريال مدريد يودع الساحر الألماني    ولادة ثلاثة وعول في منطقة مشروع قمم السودة    وجهة الابتكار    إدارة تعليم عنيزة تدشن مبادرة التسجيل في النقل المدرسي    الإطاحة بثلاثة وافدين يروجون حملات حج وهمية    الأمن المدرسي    العمودي والجنيد يحتفلون بناصر    الزهراني يحتفل بزواج إبنيه محمد و معاذ    الاحتلال يواصل قصف أحياء رفح    أمير الرياض يرعى الاحتفاء بالذكرى ال 43 لتأسيس مجلس التعاون الخليجي    الغربان تحصي نعيقها    المكسيك تسجل حرارة قياسية    أجيال المملكة والتفوق صنوان    كي تكتب.. عليك أن تجرِّب    "سناب شات" تضيف عدسات الواقع المعزز لكروم    وصول أولى رحلات مبادرة طريق مكة من المغرب    حلقات تحفيظ جامع الشعلان تكرم 73حافظا    ضريح في جزيرة يابانية لتكريم القطط    أنت بحاجة إلى ميزانية    12 ألف حاج تلقوا خدمات صحية في المدينة المنورة    عليهم مراجعة الطبيب المشرف على حالتهم.. «روشتة» لحماية المسنين من المشاكل الصحية في الحج    اكتشاف دبابير تحول الفيروسات إلى أسلحة بيولوجية    التألق والتميز السعودي في الزراعة !    مرونة سوق العمل السعودي!    أسرتا السليمان والزعابي تتلقيان التعازي في فقيدهما    بيت الاتحاد يحتاج «ناظر»    أتعمية أم خجل.. يا «متنبي» ؟    الشغف    شكراً «نزاهة»    تعيين د. المجفل سفيراً لدى سورية    تخفيف مشقة الحج عن كبار السن    مشرفو الحملات الإندونيسيون: طاقات بشرية وفنية سعودية لراحة الحجاج    سعود بن بندر يطلع على خدمات «تنموي سلطان بن عبدالعزيز»    سمو أمير تبوك يرعى حفل تخريج الدفعة الثامنة عشرة لطلاب وطالبات جامعة تبوك    أكد حرص القيادة على راحة الحجاج.. أمير الشمالية يتفقّد الخدمات في« جديدة عرعر»    وزير الحرس الوطني يرعى تخريج دورة الضباط الجامعيين    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الحضارة الإسلامية مصدر مهم للتاريخ والمعرفة الإنسانية
د. سعد الراشد في المنتدى العالمي للثقافة:
نشر في الرياض يوم 16 - 12 - 2005

ألقى وكيل وزارة التربية والتعليم للآثار والمتاحف الدكتور سعد بن عبدالعزيز الراشد يوم الأحد الماضي ورقة عمل بعنوان (الإسلام ورعاية الفنون) وذلك ضمن فعاليات الدورة الثانية للمنتدى العالمي للثقافة لسنة 2005م الذي عقد في البحر الميت بالمملكة الأردنية الهاشمية من 4 - 5/11/1426ه الموافق 4 - 7 ديسمبر 2005م لمناقشة موضوع الاستثمار في الثقافة من أجل العدل الاجتماعي للتنمية حيث أكد الدكتور الراشد على أهمية هذا الموضوع في عالمنا المعاصر مشيراً إلى الثقافة ركيزة مهمة من ركائز التواصل بين الشعوب، حيث تتنوع الثقافات بين الإرث الحضاري المكتسب لدى كل شعب أو مجتمع مهما كان حجمه أو موقعه على هذه الأرض.
قال إن اهتمامات الأمم اليوم بتراثها المادي واللامادي يجيء تأكيداً على أن التراث الثقافي بمفهومه الشامل مصدر مهم جداً للتاريخ والمعرفة الإنسانية أولاً وعنصر أساس في التنمية للسياحية الثقافية وأضاف قائلاً..
فقد أراد الله سبحانه وتعالى أن تكون رسالة الإسلام الخالدة في مكة المكرمة قبلة المسلمين والعاصمة الأولى للإسلام. فنزل القرآن الكريم على نبيه المختار محمد بن عبدالله عليه أفضل الصلاة والسلام في غار حراء بمكة المكرمة، وكانت أول سورة تلقاها النبي محمد من جبريل عليه السلام {اقرأ باسم ربك الذي خلق. خلق الإنسان من علق. اقرأ وربك الأكرم. الذي علم بالقلم. علم الإنسان ما لم يعلم} وبهذا يكون العلم والتعليم هو الأساس الذي قامت عليه تعاليم الدين الإسلامي الحنيف وهو مفتاح المعرفة لكثير من الاختراعات والإبداعات التي أسهم فيها المسلمون في كل مناحي الحياة. ومع انتشار الإسلام خارج جزيرة العرب كان العرب المسلمون قد حملوا معهم ثقافات عربية وخبرات معرفية متراكمة لديهم على مرّ القرون. ويقول نبينا محمد صلى الله عليه وسلم: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق» ولهذا فعندما امتد الإسلام إلى مشارق الأرض ومغاربها امتزجت الحضارات المتعددة وانصهرت في وعاء واحد هو الحضارة الإسلامية.
فقد تطورت المسالك والدروب بين أقاليم الدولة الإسلامية، ونهضت الطرق المؤدية إلى مكة المكرمة والمدينة المنورة، وازدهرت المدن والمراكز الحضارية التي كانت قائمة في الجزيرة العربية وخارجها، واختط القادة المسلمون مدناً عربية إسلامية جديدة ومنها البصرة والكوفة والفسطاط والقيروان وبغداد وسامراء وغيرها.
فكان تخطيط المدن الإسلامية أساساً لبزوغ صناعات وحرف متعددة. وكان لأوائل المدن العربية والإسلامية المشهورة أثر واضح في البناء السياسي للدولة الإسلامية في عصورها المبكرة ومنها مكة المكرمة والمدينة المنورة ودمشق وبيت المقدس وغيرها، وكانت هذه المدن مراكز إشعاع للعلم والثقافة والحضارة.
وعندما نتحدث عن الفنون عند المسلمين فهي في نظري كل ما صنعه الإنسان سواء بمفرده أو مع جماعة أو ضمن منظومة واحدة. ويدخل الفن في مجال العمارة، وهندسة البناء، وما يتبعها من نقش وزخرفة ورسم ونحت وتصوير وحفر إلخ... والعمارة لها تصنيفات عديدة منها العمارة الدينية المتمثلة في المساجد والمدارس والأربطة، والمدنية المتمثلة في المدن ومرافقها، والحربية المتمثلة في القلاع والحصون، والمنشآت المائية من سدود وآبار وبرك وعيون.
وكان إنشاء المدن ومرافقها يأخذ بمبادئ أحكام البناء في الفقه الإسلامي من ناحية والتركيز على العناصر الزخرفية الدقيقة التي برع فيها أصحاب الصنائع المتنوعة باستخدامهم الزخارف الهندسية والنباتية والكتابية بأشكال عديدة. وكان المسجد في مقدمة ما يبنى من المنشآت في أي مدينة أو قرية أو محطة أو منزل. فظهرت مع تطور العمارة والفنون عناصر معمارية فريدة تختص بعمارة المساجد من محاريب ومنابر ومآذن وقباب وعقود وأعمدة وأسقف وزخارف جدارية تطورت مع تطور العمارة وتعدد المهارات الفنية لدى المهندسين.
فهذا عبيد الله بن زياد يقول للناس بعد اكتمال مسجد الكوفة : «يا أهل الكوفة قد بنيت لكم مسجداً لم يبن على وجه الأرض مثله وقد أنفقت على كل أسطوان سبع عشرة مائة ولا يهدمه إلاّ باغٍ أو جاحد» وهذا أبوجعفر المنصور عندما شرع في بناء مدينة بغداد يوجه «بإحضار الصُّنَّاع والفعلةِ من الشام والموصل والجبل والكوفة وواسط فَأُحضروا، وأمر باختيار قوم من أهل الفضل والعدالة والفقه والأمانة والمعرفة بالهندسة، فجمعهم وتقدم إليهم أن يشرفوا على البناء، وكان ممن حضر الحجاج بن أرطأة وأبو حنيفة الإمام»..
إننا نجد، في ضوء المصادر التاريخية والأدبية، أن لكل مدينة إسلامية في تخطيطها وبنائها وازدهارها قصة خاصة بها. فمدينة الفسطاط وضاحيتاها العسكر والقطائع تمثل سلسلة من التخطيط الهندسي في العمارة الإسلامية بدءاً من عصر صدر الإسلام والعصر الأموي والعصر العباسي الأول. ومن أشهر المعالم المعمارية لهذه المدة جامع عمرو بن العاص وجامع أحمد بن طولون ومقياس النيل. وكشفت الحفائر الأثرية في الفسطاط عن تراث إسلامي غاية في الإبداع يتمثل في الأواني الخزفية والنسيج والخشب والزجاج والعاج والمعادن، وتظهر أسماء الصناع على بعض القطع الخزفية والمعدنية بعضها مما صنع محلياً وبعضها مما صنع في الحواضر الإسلامية الأخرى. كما أن العملات الإسلامية المكتشفة والموازين والمكاييل تضيف لمعلوماتنا الشيء الكثير عن التطور الاقتصادي في العصور الإسلامية المبكرة.
والواقع أن حفائر الفسطاط كشفت لنا عن آثار معمارية للمباني والقصور والمرافق العديدة التي تتوافق مع ما ذكر من معلومات عنها في المصادر التاريخية. أما الصناعات الفخارية والخزفية والزجاجية والمعدنية وغيرها من المواد فهي مما يصعب حصره.
وتقتني المتاحف العالمية المشهورة ومنها متحف فكتوريا وألبرت بلندن واللوفر بباريس والمتروبوليتان بنيويورك ومتحف الفن الإسلامي بالقاهرة أمثلة فريدة من الصناعات وخاصة أنواع من الفخار والخزف وخاصة الخزف ذا البريق المعدني المكتشف في الفسطاط وعلى بعضها أسماء الصناع ومنهم : سعد الفسطاطي، وطبيب علي، وإبراهيم المصري، وساجي، وأبي الفرج، وابن نظيف والدهان ويوسف والحسين وأولاد الفاخوري وغيرهم. أما القطع الأثرية المكتشفة في الفسطاط الواردة من خارجها فتدل على الصلات التجارية الراقية والقوية بين أقطار الإسلام وخاصة من العراق والشام وفارس وآسيا الصغرى، بالإضافة إلى ما كان يستورد من الصين وغيرها.
وكل هذه المكتشفات توضح بشكل جليّ المساحة التي هيئت للمبدعين من الصناع في كل حرفة وفن في عصور ازدهار الحضارة الإسلامية ورقيها.
وتعد مدينة القيروان أنموذجاً آخر لواحدة من أهم الحواضر الإسلامية التي تطور فيها الفن المعماري على مر العصور، وخاصة في عهود الأغالبة، ومنها امتد تأثيرها المعماري إلى بقية أنحاء المغرب العربي الإسلامي، وامتد إلى الأندلس وأوربا خاصة.
وقد شجع الأمراء والخلفاء المسلمون في المغرب والأندلس المهندسين والصناع على الإبداع والابتكار في مجال العمارة الدينية والمدنيّة والحربية ومختلف أنواع الحرف والصناعات. وظهرت لهم وظائف وألقاب، ومن هذه الألقاب اسم «المهندس» أو «المعلم» ويقصد به رئيس البناءين، وكذلك كان يطلق لفظ «العريف» على المهندس الذي يخطط للمبنى ويشرف على إتمام عمارته أو يطلق على «البنَّاء» نفسه الذي يعهد إليه بأعمال التشييد.
وفي ضوء هذا التنظيم ظهرت حضارة عظيمة في الأندلس. فهذه قرطبة مهد الفن الإسلامي ونافذة من نوافذ الشرق الإسلامي المطلة على الغرب فقد كانت ميداناً للإبداع في الفكر والأدب والفنون.
وتلك مدينة الزاهرة القريبة من قرطبة - التي وإن لم يطل بها الزمن - فقد كانت حديث المدائن، وقد قيل انه كان يعمل فيها ألفا عريف مع كل عريف اثنا عشر عاملاً، وكانت مواد البناء تحمل على خمسة عشر ألف بغل وأربعة آلاف جمل. وذكرت المصادر أن مسجد الزهراء قد كان يعمل في بنائه ألف رجل منهم (300) بناء و(200) نجار و(500) من الأُجراء وسائر الصناع.
وقد كشفت الحفائر الأثرية في الزهراء عن أسماء بعض مهندسي القصر منقوشة على بعض تيجان الأعمدة ومنهم من كان اسمه : أفلح ورشيق ونصر.
وثمة أمر غاية في الأهمية يجب الإشارة إليه ونحن نتحدث عن الأندلس وهو الزراعة وفنونها التي بقي أثرها إلى اليوم وذلك من خلال التراث المادي من القنوات والسدود والتراث المكتوب الذي يوضح كيف تطورت الفلاحة وعلومها في الأندلس واشتهار عدد من العلماء منهم عريب بن سعيد صاحب كتاب (تقويم قرطبة)، والزهراوي مؤلف (مختصر كتاب الفلاحة)، وعلماء وخبراء آخرون في علم الفلاحة ومنهم ابن وافد وابن بصّال وأبا الخير وابن حجاج والطعنري وابن العوام وغيرهم، وقد كوَّن هؤلاء مدرسة في الإبداع الزراعي سواء في تنويع الزراعة الأندلسيَّة الموسميَّة والدائمة، والزراعة التي يعتمد عليها في الصناعة مثل صناعة المنسوجات، والغلات الزيتية والسكرية والصبغية، وصناعة الورق والكتان والحبال ومنها النباتات العطرية ونباتات الزينة. وتطورت الأدوات الزراعيَّة وتقنيات تصريف وحفظ المياه من السواقي والقنوات والنواعير والسواني، وتطورت الناحية الجمالية في تنسيق الحدائق العامة والخاصة وأنواع البستنة والمحافظة على الأشجار وتطعيمها.
يبدو أن الأندلس أو (أسبانيا) أسرتنا عن ذكر الإبداعات الفنيّة التي كانت تجري في الوقت ذاته في بلاد الرافدين والشام لكننا نشير إلى تطور الفنون الإبداعية المبكرة التي شهدتها إيران الإسلامية وذلك من واقع المكتشفات الأثرية في مواقع كان لها شهرة واسعة، نذكر منها على سبيل المثال : سيراف ونيسابور والرَّي وقاشان. فقد عُرِفَتْ سيراف أنها مدينة (ميناء) على بحر فارس، وكانت مدينة زاهرة ذات «عمارة حسنة وجامع مليح على سواري ساج».
لقد كشفت الحفائر الأثرية في سيراف عن دلائل معمارية وصناعات تتمثل في بقايا جامعها الكبير ومبانيها والمعثورات الفخارية والخزفية والزجاجية والمعادن والزخارف البنائية التي تعود إلى القرون 3 - 5 ه (9 - 11م).
أما مدينة الرَّي فقد كانت في القرن الثالث الهجري (التاسع الميلادي) من أعظم بلاد العالم الإسلامي. ووصفت بأنها «مدينة مشهورة من أمهات البلاد وأعلام المدن، كثيرة الفواكه والخيرات، وهي محط الحاج على طريق السابلة وقصبة بلاد الجبل.. وهي مدينة عجيبة الحسن مبنية بالآجر المنمق المحكم الملمع بالزرقة مدهون كما تدهن الغضائر في فضاء من الأرض...».
وبالنسبة لمدينة قاشان فيكفي بأن اسمها بقى محفوراً في الذاكرة لما اكتسبه اسم (قاشاني) أو (قاشي) من شهرة لارتباط ذلك بصناعة أشهر أنواع الخزف في بلاد فارس بالإضافة إلى ازدهار الخط والصناعات المعدنية، كما أن الخزف المصنوع في قاشان استخدم في كثير من العمائر الجميلة في شتى أنحاء العالم الإسلامي. وذاعت شهرة الخزافين من قاشان في القرنين السابع والثامن للهجرة (الثالث والرابع عشر للميلاد) من خلال المخطوطات المحفوظة وتواقيع أسمائهم على بعض الأعمال التي نفذوها على المساجد والمباني الأخرى.
وفي ضوء قراءتنا للمصادر التاريخية والجغرافية والأدبية ونتائج الحفائر الأثرية في عدد كبير من المواقع الأثرية تبين لنا أن حركة الاتصال والتواصل بين المراكز الحضارية كانت قوية بالرغم من النزاعات والحروب والنكبات التي شهدتها أقاليم الدولة الإسلامية. وكانت الحواضر الإسلامية ملاذاً آمناً للعلماء والمبدعين، ولدينا مثال على ذلك وهو استيعاب مصر في العهد المملوكي للعلماء ومهرة العمّال وغيرهم القادمين من المشرق الإسلامي بسبب الهجوم المغولي، فظهرت بذلك حضارة ذات طابع مميز امتدت في تأثيرها إلى ما وراء حدود الدولة الإسلامية.
وبقيام الدولة العثمانية وجد الفن الإسلامي انطلاقة جديدة ومجالاً أرحب وأوسع انتشاراً خاصة في مجال العمارة وصناعة الخزف والنسيج والمعادن وفنون الخط ومختلف فنون المعرفة.
وقال من المناسب التذكير بأن الفن الإسلامي الذي شاع وتطور في أقطار الأرض تمتد جذوره من أرض جزيرة العرب، مهبط الوحي ومنطلق الدعوة الإسلامية لكل الأمم. فكانت البدايات الأولى للتخطيط والتنظيم الإداري في مكة المكرمة والمدينة المنورة اللتين تعدان بحق أهم مركزين للعلم والعلماء وخاصة علوم القرآن والسنة الشريفة. ولم تكن أرض العرب قبيل الإسلام وبعده خالية من الحضارة والتمدن بل إن واقع الحال وفي ضوء الدراسات الآثارية أثبتت أن التراث العربي والإسلامي يمتد في جذوره إلى عهود موغلة في القدم حيث عرفت الرسوم الصخرية التي نحتها الإنسان على الواجهات الصخرية قبل أكثر من 17 ألف سنة من الوقت الحاضر، وتبع ذلك ظهور الكتابة العربية القديمة في جزيرة العرب من خط المسند الجنوبي والشمالي إلى الخط الآرامي والنبطي الذي تطور عنه الخط العربي الذي كتب به القرآن الكريم.
وكانت مكة والمدينة والطائف وصنعاء والبحرين وتيماء ودومة الجندل من المراكز الحضارية المشهورة عند ظهور الإسلام، بالإضافة إلى الموانئ والواحات والمراكز الواقعة على امتداد طرق التجارة التي كانت تربط جنوبي الجزيرة العربية بشماليها مع بلاد الشام والعراق ومصر.
ولعل أقوى وأبرز عنصر في الفن الإسلامي هو الخط العربي الذي نشأ وتطور في مكة المكرمة والمدينة المنورة على وجه الخصوص ومنه انتقل إلى الحواضر الإسلامية خارج جزيرة العرب. فالقرآن الكريم كتب وجمع في المدينة المنورة وصدرت المصاحف الأولى مكتوبة بالقلم الحجازي وبالقلم الجليل المعروف بالكوفي.
ولقي المصحف الشريف على مرّ العصور عناية فائقة في مختلف أرجاء الدولة الإسلامية سواء في تطوير خطوط المصحف وعلامات الشكل والنقط وفواصل الآيات والأجزاء والأحزاب، وصناعة الورق وفنون التجليد ومواد الكتابة. ولعلنا نشير إلى نوادر المخطوطات القرآنية التي اكتشفت عام 1392ه/1972م في جامع صنعاء الكبير الذي يعد أحد أقدم الجوامع في العالم الإسلامي. فالمخطوطات التي اكتشفت في هذا الجامع تعد كنزاً نادراً تعود إلى الخمسة القرون الأولى من الهجرة، وقد اشتملت على ما يقرب من أربعين ألف صفحة مصحف كريم، منها خمسة عشر ألف قطعة مخطوطة على الرق تنتمي إلى أكثر من 950 مصحفاً، وبعض هذه المصاحف يرجح أنها خطت خلال القرن الأول الهجري.
وقد دلت الاكتشافات الأثرية في مكة المكرمة والمدينة المنورة وبقية أنحاء شمالي وجنوبي المملكة العربية السعودية عن وجود أقدم الكتابات الإسلامية المنقوشة على الحجر، وهذه الكشوفات تتوافق مع مسلمات تطور الخط العربي الإسلامي الذي كتب به القرآن الكريم وانتشر بعد ذلك وتطور في كافة أرجاء دولة الإسلام. وبذلك يعد الخط العربي رمزاً مهماً في بناء الحضارة العربية الإسلامية، وتعددت أساليب ومدارس الخط عبر العصور. فمن الخط الحجازي تطور الخط الجليل (الكوفي البسيط) وخط المشق المجوَّد والخط الكوفي وخط النسخ والثلث والديواني والمحقق والخط الأندلسي والمغربي وخط التعليق والنستعليق والعثماني وغير ذلك من أنواع الخطوط.
وتعد المسكوكات من أهم الوثائق الرسمية التي استخدم فيها الخط، كما أن الخط العربي الإسلامي بالإضافة إلى أنواعه ومدارسه المتعددة فقد تكونت منه عناصر زخرفية بديعة فمنه المزهر والمشجر والمورق، ولا ننسى الإشارة إلى أشهر المبدعين من رواد الخط العربي ومنهم :
قطبة المحرر (ت 154ه/770م)، إسحاق بن حماد الكاتب (ت 154ه/770م)، الخليل بن أحمد الفراهيدي (ت 175ه/791م)، محمد بن علي بن مقلة (ت328ه/939م)، علي بن هلال البغدادي المعروف بابن البواب (ت413ه/1022م)، ياقوت المستعصمي (ت 698ه/1298م) وغيرهم ممن تركوا بصماتهم على جمالية الخط وفنونه.
والدراسات الآثارية في الجزيرة العربية واعدة بكل جديد في مجال المسح والتنقيب، وفي كل يوم تتجلى دلائل عن النهضة المعمارية والفنية في القرون الإسلامية الأولى وذلك من خلال اهتمام الخلفاء والأمراء والوجهاء بالحرمين الشريفين ورعاية طرق الحج وإقامة المرافق والخدمات وإنشاء الحواضر والمدن الإسلامية. فمن أهم المكتشفات أمامنا اليوم هو ما عثر عليه في مدينة الرّبذة الإسلامية شرقي المدينة المنورة التي كانت حمى لإبل الصدقة وخيل المسلمين في عصر الخلافة الراشد واستمرت كذلك حتى خلافة المهدي العباسي، وبصفتها مدينة فقد كشف عن تفاصيل معمارية مبكرة لمسجديها ومنازلها المحصّنة ومنشآتها المائية والأدوات الفخارية والخزفية والزجاجية والمعدنية والحلي وأدوات الزينة والعملات والكتابات وغيرها، وهذه الاكتشافات تبرز تشجيع الخلفاء والولاة على الإبداع الفني وكل ما فيه خير للإنسانية.
ولا بد من الإشارة إلى الجهود التي تبذلها المراكز والمنظمات المنبثقة عن منظمة المؤتمر الإسلامي مثل مركز الأبحاث للتاريخ والفنون والثقافة الإسلامية بإستانبول (أرسيكا)، والمنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة (إيسيسكو)، والمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (أليسكو)، بالتعاون مع الهيئات والمؤسسات المحلية والدولية والدول بإقامة المؤتمرات والندوات وورش العمل بهدف المحافظة والرعاية للفنون العربية والإسلامية كماضٍ مشرق غني بالإبداعات ويعيش حاضراً يلقى الرعاية والدعم والتطلع لآفاق المستقبل في التنمية الصناعية.
واشار إن الدين الإسلامي يحث على العلم والعمل وعمارة الأرض بما ينفع البشرية والكسب الحلال والعمل باليد. وقد ورد في الحديث قول الرسول صلى الله عليه وسلم : «ما كسب الرجل كسباً أطيب من عمل يده»، وقد عالج الإسلام مسألة الجودة والغش في الصناعات، حيث ورد في الحديث الشريف أيضاً «من حمل علينا السلاح فليس منا، ومن غشنا فليس منا». وحث الإسلام على الانضباط في العمل ومستوى الإنتاج حيث جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم «رحم الله من عمل عملاً وأتقنه».
واوضح إن رعاية الفن المرتبط بالتراث العربي والإسلامي الأصيل أمر في غاية الأهمية يشارك فيه الدول والمؤسسات الأهلية فيها والمنظمات الدولية مع ضرورة احترام المواثيق والتشريعات الدولية التي تقضي بعدم المساس بالتراث الثقافي للأمم والشعوب في السلم أو الحرب، ونقل موروث الشعوب خارج موطنه الأصلي بطرق غير مشروعة، أو تعريض التراث بمفهومه الشامل للاعتداء والتخريب، ولعل أكبر مثال على ذلك ما نشاهده اليوم وهو ما يحدث من اعتداء وتدمير للآثار في فلسطين وعلى وجه الخصوص القدس الشريف، وما حدث للبوسنة والهرسك وكوسوفو والعراق من سلب ونهب وتدمير للتراث الثقافي بما في ذلك التراث الإسلامي.
وقال ان هناك مخاطر عديدة تهدد تراث كثير من الشعوب بسبب الفتن الطائفية والنزاعات العرقية مما يؤدي إلى فقد الهوية من ناحية، وحرمان الناس من مصدر رزقهم القائم على ذلك التراث.
وتمنى أن يخرج هذا المنتدى الثقافي العالمي بتوصيات تجعل من فنون الشعوب المادية وغير المادية ركيزة للعلم والتعلم والرزق الشريف دون امتهان للقيم والعادات والأخلاق الأصيلة، وبما يحقق العدل والسلام الاجتماعي.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.