قال لي أحدهم: هل مازلت تهيم بأهازيج العصافير فوق العناقيد ويأخذ بلبك ما يطرحه القصيد من النضيد. وتتأثر بما أغفله التاريخ مما فعله رجال مكة الصناديد الذين نذزوا جهدهم لخدمة حجاج بيت الله السعيد. وتهجو كل من عاث فساداً وتمدح كل ذي رأي سديد. قلت له بلى. بل زد على ذلك بأن كل منشأة جديدة في بلدي الحبيب تلفت نظري. ويسكن جمال رونقها في وجدي وبصري. ويظل خيالها ماثلاً أمامي في حاضري وسفري. قال أعطني مثالاً على ذلك. قلت مرة عندما كنت ماراً بشارع حراء (بجدة) لفتت نظري يافتة غريبة الشكل باهظة التكاليف اعتلت مطعماً باهظ التكاليف كلوحته كتب عنوانها بالخط العربي والياباني (يمي: يمي) وحينما لم أفهم ما تعنيه هذه الكلمة دفعني فضولي بإيقاف عربيتي والولوج إلى داخله. فوجدت رجلاً وسيماً قد تخطى الخمسين من عمره لم أكن أعلم انه صاحب المطعم ممسكاً بلوحة يبدو عليها أنها غالية الثمن حيث قد طرزت سطورها بمزيج من ماء الفضة وماء الذهب أبهرتني بمقدرة كاتبها المبدع وكانت مقتطفات من سور القرآن الكريم. كان ذلك الرجل ملصقها على صدره كأنها وليده الذي لم ينجب غيره. حينما أبهرني خطها المتقن رحت أسأل حاملها عن الخطاط الذي أبدعت ريشته هذه اللوحة الأخاذة. فأجابني انه أبي. فقلت له: أبوك من كتب هذه اللوحة؟. قال نعم بل أن ما تراه من ديكور مبهر داخل هذا المطعم ما هو إلا غيض من فيض مما كان يصنعه أبي ولكن من خلال ريشته. قلت له ولكن يبدو عليك أنك سعودي الأصل قال نعم كذلك أبي سعودي الأصل مثلي: قلت له ما اسمك واسم أبيك هذا المبدع قال اسمي (فؤاد) ووالدي هو الخطاط الشهير المكي المولد (محمد حلمي) فسرحت ملياً استرجع ذكريات الأيام الخوالي وأستحضر اسماء من سطروا لنا التاريخ بمداد من ذهب فقلت له رحم الله والدك ذلك الخطاط العظيم الذي وهب وقته وجهده لله رب العالمين عندما قام بكتابة أحزمة الكعبة المشرفة دون أن يأخذ أجراً على ذلك المجهود حسب ما سمعناه ممن عاشوا قبلنا الذين قالوا عنه إنه لم يكن خطاطاً نادراً فحسب بل كان شاعراً فحلاً له العديد من أبيات الشعر الرصين المنثور في صحائف قد اندثرت كما اندثر أصحابها ليت مؤرخينا رصدوا لنا أعمال هؤلاء كما رصدوا أعمال الشعراء والفنانين الذين هم أقل قامة من هذه القامات الشاهقة. ولله درك يا مكة يا من أنجبتِ لنا مثل هؤلاء العمالقة الذين لا نملك حيال ما قاموا به إلا أن نقول ما قاله الشاعر: يخط المرء في دنياه خطا ويبقى الدهر ما خطت يداه فلا تكتب بخطك غير شيء يسرك في القيامة أن تراه