سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
لا تُبكِّروا بالتقاعد فتموتوا!! إن السر وراء حالة الهلع من التقاعد لدى البعض يكمن في فقدانهم (المكاسب الاجتماعية) ممثلة في قضاء الحوائج، وتحقيق الرغبات، والتقدير الذي يلقونه
أصبحت مفردة (التقاعد) تمثل لدى البعض هاجسًا يشغل حيزًا كبيرًا من تفكيرهم، وعند آخرين أصبحت تمثل شبحًا مخيفًا، أو حدًّا فاصلًا بين الحياة والموت؛ ولذا تجدهم لا يحبون أن تُذكَر كلمة (تقاعد) في مجلس هم فيه؛ فتراهم يعتريهم الهم والكدَر، وتغشاهم سحابة من الكآبة لا تنقشع إلا بتغيير الحديث لموضوع آخر. التقاعد من العمل الوظيفي نظام عالمي يُطبَّق بحق كل مَن يعمل في القطاع الحكومي والشركات والمؤسسات، ويتفاوت توقيت التقاعد (النظامي) بتفاوت الدرجة العلمية ونوعية الوظيفة. ما يهمنا في هذا المقام هو حالة الهلع والذعر من التقاعد بشقيهِ (النظامي والمبكر) حيث يربط البعض بين التقاعد بشقيه وبين الفراغ القاتل المفضي في نهاية الأمر للعديد من الأزمات النفسية والأمراض العضوية. في رأيي أن السرَّ وراء التشبث بالعمل الوظيفي لدى البعض حتى آخر لحظة لا يكمن في الخوف من حالة الفراغ التي ستلازمه بعد التقاعد؛ كون حالة الفراغ هذه تتكرر معه كثيرًا أثناء ممارسته لعمله ممثلة في الإجازات السنوية، وإجازتي العيدين، والإجازات الاضطرارية، وإجازة نهاية الأسبوع، والخروج أثناء العمل لقضاء بعض المصالح الخاصة، والتأخر في الحضور، والتبكير في الانصراف، وغيرها من حالات الفراغ المتعددة أمام الموظف وهو على رأس وظيفته. إذا ما اتفقنا على هذا فإنني أرى أن السر وراء حالة الهلع من التقاعد لدى البعض يكمن في فقدانهم (المكاسب الاجتماعية) ممثلة في قضاء الحوائج، وتحقيق الرغبات، والتقدير الذي يلقونه، والشعور بتحقيق الذات، والقبول لدى الآخرين، إضافة إلى المردود المادي الجيد. هذه وغيرها تمثل الدافع الرئيس للنفور من التقاعد خاصة من قِبل بعض الذين يقفون على رأس الهرم لإدارتهم، أو بعض الذين يحتلون مناصب مرموقة. ولو توقفنا عند حالة التقاعد التي ينفر منها البعض لرأينا كم هو مرحبٌ بها عند فئة أخرى وإن كانت قليلة؛ حيث وجدت فيها من المزايا ما لم تجده أثناء ممارستها العمل الوظيفي؛ فهي بالنسبة لهم فرصة لالتقاط الأنفاس، ومجال خصب لممارسة ما حالت الوظيفة دون ممارسته، والانطلاق لحياة جديدة لا تعترف بالقيود، والبدء برسم خارطة حياتية تملؤها البهجة والحبور، فيصبح الوقت أمامه مفتوحًا، وله مطلق الحرية في استثماره وتكييفه وفق رغباته، وهذا ما يطبقه المتقاعدون في الدول المتقدمة. أمر يجب ألا يغيب عن بالنا وهو أن الوظيفة متى كانت (شاقة) فإن رغبة التبكير بالتقاعد تكون أكبر، وخير من يمثل ذلك هم المعلمون في التربية والتعليم والأفراد في القطاع العسكري، وعلى العكس من ذلك فكلما كانت الوظيفة تمارَس بأدنى جهد إضافة لكونها مرموقة كلما كانت رغبة البقاء فيها والتشبث بها أكبر. ومن أطرف ما سمعته هو قلب البعض للمعادلة؛ حين يرى أن التقاعد المبكر مُفضٍ إلى الأمراض والموت! والحقيقة أن العكس هو الصواب؛ فالتقاعد النظامي لا يأتي إلا وقد (اقترب) الإنسان من أجله، وزادت أمراضه وعلله. وإن صح أن الأمراض والعلل تداهم مَن يتقاعد مبكرًا فهذا مردُّه لفقد الموظف للمكاسب الاجتماعية التي ذكرتُها سابقًا والتي تتعطل مع أول يوم يتقاعد فيه؛ فتعتريه الهموم، وتخنقه الوحدة، ويقتله التجاهل. وخوفًا من هذا المصير نرى البعض يتشبث بسنوات الخدمة كاملة! فإذا ما اتفقنا على أن التقدم في السن مدعاة لكثير من الأمراض، ومُقرِّب من الأجل -وهذا يتحقق مع التقاعد النظامي- فمن الحكمة أن يقتصَّ الموظف شيئًا من سنين خدمته الفعلية ليستمتع بها، وينطلق إلى فضاء أرحب، ويُفسح المجال للمنتظرين، قبل أن يدركه خريفُ العمر، وهو مُتكلِّس على كرسي وظيفته. [email protected]