في إحدى المواد الجامعية التي أدرِّسُها، وهي مادة (علم اللغة)، أتعرّضُ لإحدى الوظائف الاجتماعية للغة، في إطار علم اللغة الاجتماعي، وهي: «تذكّر التجارب الماضية»، وحين أصل إليها أسأل طلابي وطالباتي: ما أكبر محرقة للبشر في التأريخ؟ ويكون الجواب دائمًا: الهولوكوست، أو محارق هتلر لليهود في الحرب العالمية الثانية. وأعود لأسأل ثانية: أليست هناك محرقة أخرى أفظع من الهولوكوست في التأريخ؟ ويكون الجواب: لا، في معظم الأحيان. وأسأل للمرة الثالثة: أليست هناك محرقة عظيمة ذُكرت في القرآن الكريم، حينها يتنبّه الطلاب، أو بعضهم ليقولوا: هل هي محرقة الأخدود يا دكتور؟ وأجيبهم: نعم بالطبع، وبعد أن أحمد الله أن بعض شبابنا يعلمون -ولو عرضًا- عن حادثة الأخدود، أبدأ بطرح الأسئلة عن مكان الأخدود، وزمن الأخدود، وعدد الذين أُحرقوا في الواقعة، ومَن هم المؤمنون الذين يقصدهم القرآن الكريم: «وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود». ولا يكاد أحد منهم يجيب. ولا يلم في ذلك الطلاب وحدهم، فلا يعلم الكثير من الناس، ومن العرب والمسلمين خاصة عن حادثة الأخدود التي أحرق فيها ملك يهودي خمسين ألفًا من النصارى، الذين سمّاهم القرآن بالمؤمنين؛ لأن النصرانية لم تكن قد حُرِّفت بعد. وتروي الآثار أن الطائر في السماء كان يسقط من شدة اللهب. أمّا مكان الأخدود فهو نجران بالطبع، ولا تزال بقايا العظام موجودة على مساحة الأخدود، رغم مرور آلاف السنين على الحادثة. أستشهد بحادثة الأخدود لأدلل على أن ذاكرة العرب باتت «مثقوبة»، فنحن لا نتذكّر تجاربنا الماضية على الإطلاق، ولذلك نخفق في التخطيط للمستقبل، كما نقع في الأخطاء ذاتها لمرات ومرات، وأعداؤنا اليهود يعلمون هذه الحقيقة حق العلم، وأذكر وأنا شاب يافع أن مجزرة صهيونية وقعت، قد تكون مجزرة صبرا وشاتيلا في لبنان، وسئل رئيس وزراء العدو وقتها: ألا تخشون من الأجيال العربية القادمة من أن تظل تذكر هذه المجزرة، وتنتقم منكم في يوم من الأيام؟ قال: لا، لأن العرب أمة لا تقرأ. وهو يقصد بالطبع أن الأمة العربية لا تقرأ التأريخ، ولا تتذكر التجارب الماضية، وعليه فلا خوف منها على الإطلاق. ولو استعرضنا سلسلة المجازر الإسرائيلية في العقود الستة الماضية، سنجد أننا نسيناها تمامًا، فمن يتحدث اليوم عن دير ياسين، أو صبرا وشاتيلا، أو قانا الأولى، وقانا الثانية، أو محمد الدرة، أو سوى ذلك؟ ولِمَ نذهب بعيدًا؟ مَن يتحدّث اليوم عن حرب غزة الأخيرة التي قُتل فيها العشرات، وجُرح المئات، وتهدّمت فيها مئات المنازل؟ وقبل ذلك وقعت حروب عدّة على غزة، لا نذكر منها شيئًا على الإطلاق اليوم. بينما يظل اليهود يذكرون محارق هتلر، ويذكرون العالم بها كل يوم مع كونها أمرًا مبالغًا فيه، وقد تكون كذبة في حقيقتها من كذبات اليهود الكثيرة في العالم التي يستدرون بها العطف الدولي، بل ويستخدمونها أسوأ استخدام في المقايضة والابتزاز، حتى استطاعوا أن يستصدروا قوانين في كل دول أوروبا قبل أمريكا تجرّم كلَّ مَن يناقش قضية الهولوكوست، وإن ثبت عنه إنكارها، فالأمر مختلف وقد يُسجن ويُغرَّم ويُنكَّل به. وحدث أن كنت مرة في زيارة لبرلين ترافقني أستاذة ألمانية كبيرة من جامعة برلين، تتحدث العربية، ووقفنا على بعض النصب التذكارية التي تحتل مساحة قد تصل إلى كيلومتر كامل، وهي نصب سريالية اعتباطية ولكنها ترمز للهولوكوست كما أخبرتني، فصحت بأعلى صوتي باللغة العربية: أيعقل أن تصدقي هذه الكذبة، وأنت مثقفة كبيرة، ثم ألستم بحاجة إلى هذه المساحة الشاسعة لبناء مساكن عليها وأنتم تواجهون أزمة سكن بدل أن تملأوها بهذه النصب الغبية؟ وإذ بها تصاب بذعر شديد ويحمر وجهها الأبيض، ثم تتوسل إليَّ أن أصمت، رغم أني كنت أتكلم بالعربية ولا أحد يفهم منا أقول، وقالت لي بصوت خافت: إن الحديث عن الهولوكوست قد يتسبب في مساءلتنا مساءلة قانونية شديدة. هكذا يذكر أعداؤنا العالم كله بمظالمهم: وهي مظالم ملفقة وكاذبة ولا دليل عليها، حتى ليرتعد الناس في بلدانهم من مجرد الحديث عنها. أمّا مظالم المسلمين والعرب وما أكثرها وأشدها، فتنسى بعد حدوث أي منها بأيام قليلة كما أسلفت في الحديث عن حرب غزة الأخيرة. وذلك يؤكد ولا شك أن ذاكرتنا العربية (مثقوبة) ومعطلة عن العمل، وما لم نصلح هذه الذاكرة بحيث لا يتوقف إعلامنا عن الحديث بشكل دائم عن حوادث الإجرام، والقتل التي يرتكبها عدونا كل يوم، فإن هذا العدو سيمضي قدمًا في انتهاك حرماتنا وسفك دمائنا. ولعل وسائل الإعلام الجديد فرصة سانحة هذه الأيام لنتعلم من عدونا، ونذكر العالم باستمرار بمظالمنا. [email protected]